يصادف اليوم الخميس، اليوم الأول بعد السنة الأولى، على التفجير الهيولي الذي ضرب بيروت. التفجير غير النووي الأضخم في التاريخ، الذي أنزل بالعاصمة إبادة جماعية فبلغ عدد الضحايا 218، والجرحى نحو 7 آلاف، كما سوى بالأرض ثلث المدينة، من ضمنها الكثير من الأحياء التاريخية، ليشرد أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن ما زالوا متروكين بأكثريتهم بدون سقف يؤويهم! وواقعياً باتت بيروت العاصمة بدون مرفأ حقيقي لأول مرة في التاريخ منذ الفينيقيين!
رغم المأساة، تبادل كبار المسؤولين التهم وتقاذفوا المسؤولية وتشبث كل منهم بكرسيه وموقعه. وما من واحد منهم تحمل المسؤولية وأعلن استقالة، كما أنه ما من واحد منهم اعتذر وطلب الصفح من اللبنانيين، بعدما ثبت علمهم بحقيقة تخزين شحنة «نيترات الأمونيوم»، واطلاعهم على تقارير موثقة تحذر من تفجير سينجم عنه موت كبير ودمار لبيروت، فلم يتحمل أي منهم مسؤولية حقن الدماء البريئة التي هُدرت غدراً!
تعاملوا مع جريمة الحرب المرتكبة، كأنها لم تستهدف مواطنيهم وعاصمتهم، والحقيقة فإن الممسكين فعلياً بقرار البلد والمتحكمين بمصير أبنائه، رأوا في التفجير الهيولي «حادثة»، وفق توصيف حسن نصر الله، فيما شريكه في القرار، رئيس الجمهورية، اعتبر الأمر «فرصة» لاستعادة مكانة ما لمنظومة الحكم، لدى المجتمع الدولي بعدما تبنت المؤسسات الدولية رؤية «17 تشرين»، بأن الطبقة السياسية فقدت أهليتها الوطنية، وهي كمنظومة يجمعها شراكة عميقة في السطو والنهب والقتل وارتهان البلد إلى الخارج الممانع!
لكن، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، ظهر موقف عبّر عن تمسك الأكثرية الساحقة بالحقيقة والعدالة والمحاسبة. أكثرية وحّدها الظلم، وعقود من سياسات الإذلال وانتهاك الكرامات، فشجبت محاولات التطبيع بين القتيل والمتهم بالقتل، وفضحت أنشطة مكشوفة خلفها متسلقون من صيادي الثروة والجاه السياسي، كلهم أرادوا الاستثمار في الكارثة، خدمة لرغبة المتسلطين الاستيلاء على 4 أغسطس (آب) وتحويله إلى مجرد ذكرى.
وللمرة الأولى، ظهرت حقيقة أن ساعة المواطنين توقفت عند السادسة و7 دقائق من يوم 4 أغسطس 2020. ورغم مرور كل هذا الوقت، يعيش عشرات ألوف الأطفال ومثلهم من البالغين، حالة ذهول، ليس بوسعهم تجاوز لحظة الكارثة، كما ليس بوسعهم استعادة حياتهم، لأنه ليس من عاديات الأمور أن يقتحم الموت البيوت وأكثر الأمكنة أماناً وحميمية بالنسبة لأي مواطن... وبات الممر الوحيد لاستعادة وقع الحياة والشعور بالأمان، تحديد المسؤولين عن الجريمة ومحاسبتهم بوضع حد لسياسة الإفلات من العقاب، لكي يكون ممكناً استعادة إمكانية الأحلام البسيطة المستقبلية، بعد سنة كاملة ازداد فيها تنكر منظومة الحكم للدماء، واستخفافهم بالضحايا، وحتى بحقوق الضحايا الأحياء من المشوهين الذين تُركوا لمصيرهم بدون علاج!
وللمرة الأولى، تأكدت للقاصي والداني قوة الاحتجاج الشعبي الكامن، الذي يريد كسر «عُرفٍ» بدأ في عام 1975 وقضى بتسجيل كل الجرائم الكبرى ضد مجهول. وتكرس هذا العرف قانوناً في عام 1990 من خلال قانون العفو عن جرائم الحرب، الذي أدى إلى وضع مقدرات البلد بين أيدي حفنة من زعماء ميليشيات الحرب الأهلية، فبلوروا بإشراف نظام الاحتلال السوري صيغة نظام المحاصصة الطائفي لممارسة تسلطهم، وهو الأداة التي تحمي مصالح واستبداد التحالف المافياوي - الميليشياوي المتسلط! وهو النظام الذي غطى اختطاف الدولة بسلاح الدويلة، وراكم قوته على تغييبها، ولو من خلال هندسة الفراغ السياسي المديد في السلطة، بما أتاح للمتسلطين اعتماد البدع وشتى الصفقات مكان القانون والدستور.
النهوض في الموقف كرّس إبعاد كل الطبقة السياسية عن الفضاء العام، وجمع أكثرية موصوفة من المواطنين، في مواجهة عار منظومة الحكم ووقاحتها في سعيها المحموم لجعل الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبوها جزءاً من الماضي، فتتكامل مع نهج تعطيل الدولة وشل كل المؤسسات، خدمة للأجندة الخارجية إياها التي تريد ابتلاع البلد. فشكلت التعبيرات الشعبية المختلفة، حماية معنوية للمسار القضائي الذي فاجأ الطبقة السياسية، بعدما وُجد في الموقع وفي اللحظة المطلوبة، قاض للتحقيق في جريمة تفجير المرفأ، شجاع في اتخاذ الموقف، لم يتورع عن الادعاء على المشتبه بهم بجرم الجناية بعيداً عن أي محاباة، فوضع منظومة الحكم والسلطة التنفيذية وذراعها العسكرية والأمنية أمام القضاء كمدعى عليها!
ما من إنسان كان يتخيل للحظة أن كل الدولة اللبنانية مدعى عليها بجريمة جناية «القصد الاحتمالي» بالقتل وجنحة «الإهمال». والجميع يعرف أن مستقبل البلد يتوقف على هذه المواجهة، فكشف الحقيقة والمحاسبة تعادل أم المعارك بالنسبة للبنان ولكل اللبنانيين أينما وجدوا، ولم يعد ممكناً تركهم وكأنهم يملكون حق التصرف بحياة الناس.
في اليوم الأول من السنة الثانية على جريمة الرابع من أغسطس 2020، تبدو صعبة ومحفوفة بالمخاطر مسيرة كشف الحقيقة في جريمة الإبادة الجماعية، المرتكبة بالقصد وبالتواطؤ وأساساً بالانتفاع، والمتهم بارتكابها كبار المسؤولين من رأس السلطة إلى أخمص قدميها. وبات المدخل إلى الحقيقة، يتطلب فرض أولوية لا يتقدم عليها أي أمر آخر: إسقاط حصانات تتلطى خلفها الطبقة السياسية، وكذلك إسقاط حصانات إدارية، تذرعوا بها لجلب المدعى عليهم إلى قوس العدالة.
هنا التنبه مطلوب من خطورة الاستخفاف بقوة منظومة النظام الطائفي، التي تمتلك كل قدرات أجهزة الدولة وإمكاناتها وشبكاتها المالية والإعلامية والأمنية، وفوق ذلك كله طوّعت القوانين وأنشأت نظام حماية متعدد الأوجه لا وظيفة له إلاّ تغطية الارتكابات حتى لو ارتقت إلى مستوى الإبادة الجماعية. هي منظومة تقاتل دفاعاً عن استمراريتها، وعن نظام المحاصصة الذي حمى فسادها، والدليل الصراع المفتوح على المقاعد الوزارية كمقدمة لمعركة رئاسة لجمهورية تم تضييعها، غير آبهين بحجم الانهيارات، لا من العتمة الشاملة والتجويع الواسع، ولا من انهيار أنظمة الصحة والتعليم والغذاء مع 30 في المائة من الأطفال ينامون على الطوى! مثل هؤلاء لا تردعهم إدانات منظمة العفو الدولية أو الحقائق الجرمية التي ثبتتها منظمة «هيومن رايتس ووتش» التي أكدت تورطهم في جريمة 4 أغسطس!
بعد 4 أغسطس تبلور رأي عام أول أهدافه فرض الإقصاء على طبقة سياسية قاتلة، لذا آن أوان الانتقال من وحدة الموقف وقد فعلت فعلها، إلى بلورة مسارات سياسية جبهوية منبثقة من الناس، تحمل مطالبهم، وأولويتها تظهير ميزان القوى الذي يعكس قوة الأكثرية، بإبراز المشترك من الأولويات، كمقدمة لبلورة البديل السياسي الحقيقي، فيعاد الاعتبار إلى الحياة السياسية كي يكون متاحاً فرض استقلالية القضاء، وصولاً لاستعادة سيادة مستباحة، حتى لا ينتصر المراهنون على أن لبنان هو بلد النسيان!