كان عام ٢٠٠٠ هو اللحظة التى جلست فيها أمريكا على قمة العالم مسجلة أنها القوة العظمى الوحيدة. العقد الأخير من القرن العشرين كان عقدًا أمريكيًا خالصًا بعد أكثر من عشرة أعوام على سقوط حائط برلين، والانتصار الأمريكى فى حرب الخليج، والانتصارات الأخرى فى البوسنة وكوسوفو. داخليًا كانت الولايات المتحدة حبلى بأكبر ثورة علمية وتكنولوجية عرفها التاريخ وما عقدته من آمال التواصل الإنسانى، وقدرة التغلب على كل أوجاع البشر من الحروب إلى الأمراض إلى المجاعات. الطاقة الاقتصادية الأمريكية بلغت قدرًا هائلًا من الاتساع والنمو، حتى إن الشعب الأمريكى كان مستعدًا لغفران خطايا أخلاقية لرئيسه الشاب بيل كلينتون، الذى حققت الولايات المتحدة فى عهده نموًا اقتصاديًا كبيرًا، وراحت تأخذ معها حلف الأطلنطى لكى تحارب فى البلقان، ومعها العالم كله لعقد اتفاقات سلام فى الشرق الأوسط حتى بين الإسرائيليين والفلسطينيين. المعضلة فى كل ذلك أن النجاح الساحق للولايات المتحدة على خصومها فى موسكو والصين وحلفائها فى أوروبا واليابان أقام قاعدة لدى الأمريكيين بأنه إذا كان النظام والقيم الأمريكية قد نجحت كل هذا النجاح فى أمريكا فإنها من الممكن أن تحقق النتيجة ذاتها فى كل دول العالم. ومادام أنه لا يمكن التفرقة بين البشر على أساس جينى أو عرقى فلابد أن الجميع لديهم القدرة والقبول بما نجح وذاع صيته وأثبت رخاء مؤكدًا. ما عدا ذلك هو نتاج ظروف مؤقتة قد تكون نظمًا سياسية استبدادية، أو قيمًا رجعية ومتخلفة ذاعت بفعل أصحاب مصالح فى استمرار التخلف والتراجع، أو فقط عدم المعرفة بالتجربة الأمريكية، التى ما إن تلوح فلابد أنه سوف يكون لها فضل الهداية إلى الطريق القويم. ثلاث قيم أساسية دارت حولها العظمة الأمريكية التى أصبحت ذات طبيعة رسالية تقوم على ثلاثة أركان: «العولمة»، واقتصاد السوق، والديمقراطية. الأولى تفترض عالمية القيم والسلع والبضائع وحتى البشر، والثانية آلية تحرر الأسواق الداخلية فى الدول وتدفعها لكى تكون جزءًا من سوق عالمية واسعة باتساع الكون، والثالثة ترجمة لسوق سياسية مفتوحة بضاعتها ليست السلع وإنما الأصوات، والمهم فى الحالتين المنافسة.

انتهى العقد الذى بدأه جورج بوش، الرئيس الحادى والأربعون، بدعوة إلى إقامة نظام عالمى جديد، ووصل إلى نهايته مع الرئيس الثانى والأربعين، بيل كلينتون، وقد بدا أن هذا العالم فى طريقه إلى التحقق بعد أن باتت منظمة التجارة العالمية محض تفاصيل، وباتت مطارات العالم وكأنها سفن نوح متنوعة البشر والسلع. جاء عام ٢٠٠١ مع الرئيس الثالث والأربعين، جورج بوش الابن، وفيه بداية انقلاب فى الفكرة الأمريكية نفسها، التى انتقلت من «النظام العالمى» إلى موضع أمريكا من هذا النظام، وهو أن تكون له قائدة وهادية. الرئيس الجديد كان مُحاطًا بمجموعة من «المحافظين الجدد»، الذين أخذوا المشروع الأمريكى من صيغته العالمية إلى صيغة أمريكية، تتحدث عن «القرن الأمريكى» واستكمال الطريق والمهمة فى العراق ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، التى سوف تجعل من دول العالم التى تتعرف عليها، مثلها مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، قوية وعفِيّة ومتسامحة وتسير مسيرتها بإلهام من واشنطن. كان «فرانسيس فوكاياما» قد نشر مقاله ثم كتابه عن «نهاية التاريخ»، الذى وصل إلى مبتغاه بتبنى «الفكرة الأمريكية» الليبرالية، التى لم يعد هناك بعدها جدل ولا ديالكتيك. ولم تصل أمريكا ولا العالم إلى ١١ سبتمبر ٢٠٠١ حتى وجد العالم نفسه فى مواجهة لم يتوقعها أحد، رغم تحذيرات ونذر. كان صمويل هنتنجتون، فى أطروحته عن «صراع الحضارات»، هو الذى انتصر، عندما جاء أول اعتداء مباشر على الأرض الأمريكية فى نيويورك وواشنطن من تنظيم وليس من دولة (القاعدة)، وانطلق إرهابيوه من دولة فقيرة (أفغانستان) وليس دولة عظمى أو كبرى.

الخطيئة الكبرى حدثت فى تلك اللحظة، التى لم يَجْرِ فيها تفكير ولا تدبير، وما كان منه بسيطًا ومخالفًا للتقاليد الواجبة فى الفكرة الديمقراطية القائمة على الاعتدال والعلم والمعرفة والتدبير وتقليب الأمور على أوجهها المختلفة. كان السبب نوعًا من العمى الفكرى القائم على معادلة أن العالم بالفعل راغب بشدة فى العولمة، وفى الديمقراطية، وفى اقتصاد السوق، وكل ما هناك عقبات ومعضلات من صنع بشر إذا ما جرت إزاحتهم فإن الطريق يكون مفتوحًا واسعًا ورحبًا. كان الشعب الأمريكى الغاضب والحزين بشدة على ما جرى جاهزًا لكى يتخيل أن دولة مثل أفغانستان النقيض فى كل شىء للولايات المتحدة الأمريكية فى معادلات الغنى والفقر، والتعقيد والبساطة، والمؤسسات السياسية فى ناحية والقبلية والتقاليد القديمة فى ناحية أخرى، يمكن إصلاحها بعد الانتقام منها ومن القاعدة، وجعلها مثالًا للمجتمع الحديث. لم يكن فى القاموس التاريخى ما يشير إلى إمكانية لنجاح المشروع، ولم يستيقظ أحد عندما بدأت الغارات الأولى على أفغانستان أن الطيران الأمريكى بسرعة اكتشف أنه لا توجد أهداف تستحق الضرب. ربما ساعتها وُلدت فكرة أن العراق ربما تكون أكثر غنى بالمؤسسات والمواقع التى يمكن ضربها، وإذا ما جرى تفكيك الدولة الصدامية فإنه يمكن إعادة تركيبها مرة أخرى على المقاسات العالمية المطلوبة. لم تكن وزيرة الخارجية «كونداليزا رايس» مغرمة بالفوضى عندما تحدثت فى القاهرة عن «الفوضى الخلاقة»، وإنما كانت تصف تلك المرحلة الساحرة بين تفكيك دولة وإقامة أخرى حيث يكون طبيعيًا فيها حالة من السيولة المؤقتة توصف بالفوضى!.

القيم الأمريكية الثلاث على ما قدمته للكثير من التقدم العالمى فى مجالات الحرب والمجاعة والمرض، وأخذت الإنسان إلى خارج الكوكب بحثًا عن النجوم والأكوان، كانت لها مردوداتها السلبية التى ظهرت فى أفغانستان والعراق حيث تفككت الدول ولكنها استعصت على التركيب مرة أخرى. الطائفية والقبلية والتاريخ والتقاليد والأنسجة الاجتماعية لم تكن تقبل ما أتى به الأمريكيون على سنان الرماح. الغريب أن التاريخ الأمريكى ذاته لم يكن مرشدًا حيث كان بقاء «العبودية» شرطًا أساسيًا لقيام الدولة ذاتها، وهو الذى كانت الدولة الأم، بريطانيا، تتحرر منه، وفى النهاية كان الدستور الأمريكى ترجمة للواقع الأمريكى. ولم يكن التاريخ الأمريكى المعاصر عصِيًّا على المعاكسة عندما ظهرت له العولمة فى ثياب الإرهاب، والهجرة الكثيفة، وكورونا، والاحتباس الحرارى، وفى النهاية ظاهرة «ترامب» الذى بدأ مسيرة الخروج من العالم، ومن جوار الحلفاء قبل بُعاد الخصوم. الديمقراطية واقتصاد السوق لم يكن نصيبهما أقل قسوة، وظهرت الأولى فى أكثر أشكالها تشوهًا فى السادس من يناير الماضى ساعة الهجوم بأعلام الكونفيدرالية على الكونجرس، واستخدام أزمة الكورونا والاحتباس الحرارى والأزمة الاقتصادية فى تجاوز الثانى بأكبر تدخل للدولة فى الاقتصاد الأمريكى عرفه التاريخ المعاصر. كان ذلك فى أمريكا، فكيف كان الحال فى العراق وأفغانستان وبقية العالم المختلف والمتنوع؟ وهل ستتعلم أمريكا الدرس هذه المرة؟