انظر في الدور الإيجابي الفريد الذي تلعبه قطر في إدارة شؤون العلاقات الدولية مع حركة طالبان، وسترى أن استثماراتها في الحركات الجهادية، ومنها طالبان، لم تكن من دون غرض نبيل.

فلماذا سوء الفهم؟

ما قصدت قطر أن تفعله هو نفسه ما كان يقصده روبن هود. فهذا المتمرد كان يسرق من الأغنياء لكي يعطي للفقراء. سوى أن قطر فعلت الشيء نفسه، للغرض النبيل نفسه، ولكن بالمقلوب، بأن كانت تدعم الجهاديين الفقراء من أجل أن تعطي الأغنياء الطمأنينة وراحة البال.

والحال، فإننا من دون نافذة تطل على عالم الجهاديين العجيب، ما كنا لنعرف شيئا عنهم. ومن دون أبواب نطرقها عليهم، ما كنا لنجد سبيلا لترشيد ما قد يفعلون. وفي الحقيقة فإن الكثير مما تقول طالبان إنها تغيرت فيه، كان بسبب التأثير القطري.

الدعم المخلص فتح لها القلوب وسمح للعقول أن تعقل أن العيش في عالم اليوم ليس مجرد معركة نخوضها ضد الأميركيين وحلفائهم، بقدر ما هي معركة إثبات وجود، ومعركة قدرة على التعايش مع عالم، حتى وإن بدا غير سوي، فإنه يظل عالما نحتاج إقامة علاقة “حسن جوار” معه.

ولقد ثبت أن هذا الاستثمار كان ناجحا. وهو من نتائج يقين براغماتي يقول إنك تستطيع أن تجعل الضار مفيدا، والإرهاب عاقلا، وأن تكون لك نافذة تطل عليه، ومدخل للتشاور والتحاور معه، وسبيل لعقلنة المجانين واتقاء شرهم.

ولئن أخذ بعضنا الحميّة في حسابات أخرى، تقول إن المسار كله كان مسارا للتخريب وسفك الدماء والدفع إلى انهيار دول ومجتمعات، فإن البركة بالخواتيم. ذلك أن تحوّل الإسلام الجهادي إلى قوة تفرض نفسها أمام “الركود السياسي” و”الفشل الديمقراطي”، كان سيؤدي إلى كل ما رأيناه من خراب في جميع الأحوال. وذلك في نوع من الأمر الواقع الذي لا مفر منه. سوى أن الامتناع عن فتح النوافذ وطَرق الأبواب يزيد الضرر ضررا، ويحرم العالم من القدرة على فهم الجهاديين، كما يحرم الجهاديين من فهم العالم.

وكان من حسن حظ العالم الغافل أن الدعم القطري وفر الجسور، لتبادل المعرفة، وتبادل السفراء.

من دون الدور القطري الراهن في أفغانستان، كيف كانت عاقبة الأمور ستكون؟ وهل تحسب أن الانسحاب الغربي تم بالحد الأدنى من الخسائر، من دون ذلك الدور الذي أقنع طالبان، وكل مَنْ يدور حولها، بأن تحرس الخروج وتوفر له التسهيلات؟ أفهل رأيت أن مطار كابول محاطٌ بجبال وعرة، وكان يمكن للقذائف والصواريخ المحمولة على الكتف أن تحوله إلى جحيم؟

فلماذا سوء الفهم؟

والمهمة مستمرة، من أجل إقناع طالبان، ومن خلفها “القاعدة”، بأن إقامة علاقات معتدلة مع العالم هي السبيل الوحيد لكي تتحول “الإمارة الإسلامية” في أفغانستان إلى نموذج ناجح، يطل بإشعاعاته المباركة على باكستان وطاجكستان وتركيا وغيرها. باستثناء إيران، فهذه لها إشعاعات مباركة خاصة بها، يتصدرها في العراق وسوريا ولبنان واليمن جهاديون من نوع آخر. ولقطر معهم جسور تم بناؤها بالمال وعرق الجبين.

الإسلام السياسي، صحيح أنه أداة من أدوات الدمار الشامل، إلا أنه حقيقة قائمة. وبالتالي فإن “التعاطي” معه يظل مفيدا، لأنه سيجعل الطريق سالكا من اتجاهين: تفهمني وأفهمك. تتعايش معي فأتعايش معك. تعطيني ضمانات، فأعطيك نقودا، ثم تعطيني دورا، فأعطيك المزيد، وهكذا.

الإسلام السياسي لم يعتدل إلا عن هذا الطريق. وللمرء أن يتصور كيف كان يمكن للحال أن يكون، لو أن حركة النهضة في تونس اختارت أن تدافع عن سلطتها بقوة السلاح. وتخيل لو أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر واصلت حربها في سيناء، وأبقت رأس مصر مقلوبا حتى لتعجز عن الحصول على لقمة العيش. وهل تحسبن أن حكومة عبدالله حمدوك في السودان ورئاسة عبدالفتاح البرهان لمجلس السيادة الانتقالي تسيران في طريق إعادة البناء، من دون رحمة جاءت من اعتدال “الجماعة” وقبولها الانحناء العاقل للعاصفة؟

وهذه الجماعات تحاول الآن أن تنتقد مساراتها، من أجل أن تتحول إلى أطراف سياسية أكثر معقولية، فتتقبل لعبة المشاركة السياسية وتثبت، بعد اعتدال طالبان ونجاح إمارتها الإسلامية، أنها تستطيع أن تركب موجة اعتدال أعلى فتصبح شيئا يرقى إلى مستوى الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا. فتكون جماعات الإخوان أحزابا تحمل أسماء جديدة بدلا من الأسماء المخادعة السابقة كـ”العدالة والتنمية”، حيث لا عدالة ولا تنمية، أو كـ”العدالة والحرية” حيث تنازعتا حتى سفكت إحداهما دماء الأخرى.

المستقبل القريب قد يحمل أسماء جديدة من قبيل “الحزب الإسلامي الديمقراطي”، أو “حركة المعتدلين الديمقراطيين”، أو جماعة روبن هود الوطنية الديمقراطية.

بعض المستغلين ذهب إلى الاعتقاد بأن كل ما تحتاجه للحصول على المال هو أن تكون إرهابيا. ولكن الاستغلال لا يدوم، فأسفر عن تفريخ تنظيمات جديدة، كما حصل في سوريا، حيث لم يعد بالإمكان إحصاء الفصائل التي انشقت على بعضها البعض. كما لم يعد بالإمكان معرفة مَنْ أخذ ماذا، مقابل ما احتجزه من رهائن غربيين أطلقت قطر سراحهم. ولكن حتى هؤلاء صاروا معتدلين.

تحتاج المقاصد النبيلة وقتا لكي تُفهم. وها قد حان الوقت لكي يرى الأعمى قبل البصير كيف ساعدت قطر في إنقاذ العالم من مأساة كبرى.

وهي ستظل تؤدي الخدمة كسفير للعالم بأسره في إمارة أفغانستان الإسلامية. من ناحية لكي تكون إمارة قادرة على النهوض بأعباء إدارة المجتمع باستيعاب تناقضاته وتعدديته، ومن ناحية أخرى بضمان الوفاء بعلاقات التعايش مع دول العالم. والمال موجود لخدمة كل غرض معتدل، ولعقلنة كل إرهابي حصيف.

ويعتمد على نجاح الإمارة الإسلامية الكثير. فهي نموذجٌ ملهم، يمكن أن يدفع كل الحركات الجهادية، بما فيها تنظيم داعش إلى أن تأخذ بطريق الاعتدال.

هذه الحركات تستطيع أن تواصل المعركة داخل مجتمعاتها. لا توجد مشكلة في ذلك. فالجهاد يمكن أن يستمر ويزداد بطشا. ولكن حالما يتحقق الانتصار، كما حققته طالبان، فإنها تنقلب على وجهها الآخر، كما تنقلب قطعة النقد، من وجه إلى وجه، هكذا في غمضة عين، ومن دون شروح، ولا حاجة إلى تفسير أو تأويل.

ومن بعض ما يهم في الأمر، هو حماية التجربة الجهادية من حملات الشيطنة التي ظلت تتعرض لها منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى الأول من سبتمبر 2021، وحماية العالم.

ولا بد للمُنصف أن يُنصف. فهذا جهد نبيل. إنه استثمار في الحرام، من أجل الحلال. وما كانت ألغازه لتُفهم إلا بعد حين.