ظاهرة غزارة الإنتاج الأدبي في حاضر الوطن العربي كله، شعراً ورواية على الأخص، أصبحت تفرض نفسها، مما يستدعي طرح أسئلة وملاحظات بشأنها. وهي أسئلة ونقاشات ليست بالجديدة، ويتكرر طرحها بين الحين والآخر، ولكن لا تستقر الإجابات على حال مقبول متجذر.

نحن نشير هنا إلى المطلوب من الإنتاج الأدبي: أن يكتفي بأن يكون متجلياً جمالياً وإبداعاً في عرض نفسه فقط، أم أنه يحتاج أيضاً إلى أن تكون له وفيه اهتمامات والتزامات اجتماعية وسياسية يتطلبها واقع الشعوب والمجتمعات التي ينتمي لها الأديب؟

لقد طرح هذا الموضوع بقوة وجدية في الوطن العربي في الخمسينات من القرن الماضي، تأثراً بما طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر من أن قيمة النتاج الأدبي الكبرى تكمن في مدى تعبيره عن قضايا وهموم وتطلعات الإنسان ومجتمعه وليس في جماليته الذاتية. ومن الخمسينات وحتى الثمانينات ظلت تلك المدرسة هي السائدة. ولكن عند تراجع المد الاشتراكي والإيديولوجيات الثورية، وبدء صعود النيوليبرالية انعكس الوضع في ساحة الأدب كما تراجع في كثير من حقوق التعبير الفكري والفني.

الآن وقد تكشّف للعالم من حولنا ما طرحته تلك النيوليبرالية من ثقافة مسطحة تنادي بالحرية الفردية الأنانية المهووسة بالاستهلاك المادي والمعنوي النهم، ومن صراعات تجارية مجنونة، ومن إهمال التوازن وسلامة البيئة، ومن هيمنة لرأس المال على السياسة والثقافة والإعلام... الآن وقد تكالبت قوى الاستعمار وأنظمة الاستبداد والفساد على تمزيق الوطن العربي والمجتمعات المدنية في أغلبية الأقطار، وعلى تأجيج الصراعات والمطالب الطائفية والقبلية والمناطقية، وعلى تنفيذ حصارات اقتصادية غير إنسانية على أي قطر عربي لا يقبل الخضوع لإرادة هذه الجهة الخارجية أو تلك.. الآن وكل هذا يحدث من حولنا وفي حياتنا العربية اليومية، يحق لنا أن نعيد طرح موضوع التزام الأديب والفنان والمفكر والإعلامي ورجل الدين بإدخال الجوانب الاجتماعية والمعيشية للفرد والأخطار القومية الوجودية للأمة والوطن الكبير في كتاباتهم وخطاباتهم وإبداعاتهم التعبيرية.

توعية الفرد والمجموع بكل ما يحيط بهم، وتجييشهم ضد كل أنواع الأخطار المهددة لمستقبلهم يجب أن يكونا جزءاً من كل إنتاج ونشاط في كل حقول الحياة العربية.

هذا لا يعني إطلاقاً التهاون في الجوانب الجمالية والحرفية الصارمة والمستويات التكوينية العالية؛ إذ من المؤكد أن الفرد والجماعات يطلبون توفر الجانبين في كل إنتاج. ولعل أصدق ما يؤكد ذلك، على سبيل المثال، أن الأجيال تحفظ وتردد، عبر العصور، أبيات شعر المتنبي التي يتحقق فيها جانبا الجمالية والمعاني الفكرية والسلوكية، في حين يبقى شعره الجمالي فقط غير متداول بنفس الانتشار والاستشهاد.

في اللحظة الحالية التي تجري فيها محاولات تمييع الذاكرة العروبية الجمعية، والاستخفاف بالمشاعر والشعارات القومية الوحدوية، وتجييش كل ما يشوّه التاريخ ويؤجّج الصراعات، أصبحت الحاجة ملحّة للعودة إلى مدرسة الالتزام تلك؛ من أجل مساندة الوعي الفردي والجمعي وتنشيطه، لمواجهة حملات إعلامية وثقافية هائلة، تسعى إلى إدخال الجهل واليأس والاستسلام في أذهان وقلوب وأرواح شابات وشباب الأمة العربية.

إنها مسؤولية تاريخية يتحملها أصحاب الفكر والأدب والفن والإعلام.