يمكن القول إن زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الأخيرة الى منطقة الشرق الأوسط، والتي قادته الى الرياض، وأبو ظبي والقاهرة، شكلت مناسبة للإدرة الأميركية للاطلاع عن كثب على واقع العلاقات "السيّالة" بين بلاده وتلك الدول، والأهم على التطور في تفكير قادة البلاد التي زارها في ما يتعلق بمآل العلاقات بين واشنطن وكل من العواصم المشار اليها آنفاً.

ما من شك في أن الرياض التي كانت المحطة الأولى لجولة سوليفان والوفد المرافق الذي ضم كلاً من مبعوث الرئيس الأميركي جو بايدن الى اليمن ثيموتي ليدركينغ، ومنسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك، والقائمة بألاعمال في سفارة الولايات المتحدة في الرياض مارتينا سترونغ، كانت الأبزر في ضوء تزايد الإشكاليات بين البلدين منذ وصول الرئيس بايدن الى البيت الأبيض، حيث بدأ عهده بالتضييق على حليفة الولايات المتحدة الأهم في المنطقة، عبر تعليق تنفيذ صفقات سلاح متطورة، بينها مقاتلات "أف-35" وذخائر تحتاجها السعودية لتدعيم دفاعاتها، ثم إطلاق مراجعة شاملة لمجمل التعاون العسكري بين البلدين، فضلاً عن مراجعة العلاقات على الرغم أنه في وقت كانت ثمة حاجة لهكذا خطوة، لكنها أضرت بالعلاقات، من دون أن تثمر في مكان آخر. وأعقب ذلك قيام إدارة الرئيس بايدن برفع ميليشيات الحوثيين عن لائحة المنظمات الإرهابية، تزامناً مع إطلاق حملة ضد الرياض تارة تحت عنوان قضية مقتل الصحافي جمال الخاشقجي، وطوراً تحت عنوان قضايا حقوق الإنسان، إضافة الى شعار ضرورة انهاء حرب اليمن!.

وبدا للوهلة الأولى أن إدارة بايدن التي تمثل عملياً استمرارية لادارة الرئيس الأسبق باراك أوباما حيث كانت تردّت علاقاتها الى حد بعيد بحلفائها في المنطقة، وفي المقدمة المملكة العربية السعودية، قررت البحث عن تسعير خلافاتها مع الرياض، فيما كانت تتهيأ للعودة الى طاولة المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النووي في فيينا. وفي المرحلة التي تلت، تراكمت خطوات واشنطن السلبية تجاه الرياض، من سحب بطاريات صواريخ "الباتريوت"، وإيقاف الدعم الاستخباري، وخدمات الإنذار المبكر على الحدود مع اليمن، الى إصدار تقرير هيئة الأمن الوطني المتصل بملف مقتل الخاشقجي، وسماح البيت الأبيض بنشر بعض الوثائق المتصلة بمرحلة هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، حيث يمكن لأهالي الضحايا استخدامها في محاكم أميركية لمطالبة السعودية بتعويضات.

توازياً حصلت تحركات داخل الكونغرس الأميركي من عدد من المشرّعين في الحزب الديموقراطي في محاولة لحشد التأييد لعقوبات ضد السعودية. كل هذه الخطوات السلبية التي لم تكن إدارة الرئيس جو بايدن بعيدة منها، أظهرت أن ثمة خللاً لا يمكن تجاهله في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهو يحتاج الى معالجة بالنظر الى كون البلدين تربطهما علاقات تحالفية تعود الى منتصف الأربعينات من القرن الماضي. أضف إلى ذلك أن السعودية تُعتبر، إذا ما استثنينا إسرائيل، الحليف الأهم لأميركا في المنطقة الممتدة من حدود ليبيا الى بحر العرب وحدود إيران. هذه العلاقة تتجاوز تغيّر الإدارات في واشنطن، كما تتجاوز تبدل الأولويات الاستراتيجية الأميركية، على قاعدة أن أميركا كانت ولا تزال القوة الأكثر نفوذاً في منطقة الشرق الأوسط، وتحّول اهتماماتها نحو الشرق الآسيوي، وبحر جنوب الصين لا يقلل من أهمية دورها في الشرق الأوسط. من هنا أتت زيارة جاك سوليفان الى الرياض في وقت يحتاجه البلدان.

صحيح أن مستشار الأمن القومي الأميركي ركز في محادثاته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على موضوع إنهاء حرب اليمن، معلناً أن إدارته تصر على أن الوقت قد حان لانهاء الحرب، لكن الصحيح أيضاً أن سوليفان سمع كلاماً جديداً من المسوؤل السعودي الأهم، مفاده أن السعودية متفاجئة جداً من طريقة التعامل الأميركي، وتجاهلها المبادرات السعودية لوقف الحرب، واتخاذ واشنطن خطوات غير بنّاءة، مثل رفع الحوثيين عن لوائح الإرهاب في وقت رفض هؤلاء مبادرة السلام، ورفضوا البدء بمفاوضات سلام مع الشرعية اليمنية تحت إشراف الأمم المتحدة، لا بل أنهم صعّدوا حربهم في اليمن، وأطلقوا حملة عسكرية كبيرة في محاولة لإسقاط مدينة مأرب الإستراتيجية، تزامناً مع القصف المتواصل بالصواريخ الباليستية، والمسيّرات ضد أهداف مدنية في السعودية. ومع ذلك ظل الموقف الأميركي مقتصراً على بيانات استنكار، لم تتم ترجمتها على الأرض لمنع التصعيد الحوثي الذي تقف خلفه إيران. بعد ذلك جرى البحث في العديد من النقاط الخلافية بين الطرفين، مع الإشارة إلى أن سوليفان أبلغ ولي العهد السعودي أن الرئيس الأميركي يثني على المحادثات السعودية – الإيرانية التي يرى فيها خطوة إيجابية للحد من التوترات في المنطقة، فضلاً عن مشاركة السعودية في قمة بغداد لدول الجوار العراقي التي عقدت في نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي.

لكن الأمير محمد بن سلمان شدد على أن المباحاثات مع الطرف الإيراني تتم بالنسبة الى السعودية على قاعدة وقف التدخلات في شوؤن الآخرين في المنطقة، واحترام سيادة دول المنطقة، وفق ما أعلنه الملك سلمان بن عبدالعزيز في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. أما بالنسبة الى قضية البرنامج النووي الإيراني، ومع تأكيد سوليفان أن أميركا لن تسمح لإيران بالحصول على السلاح النووي أو حتى الاستحواذ على قدرات تمكّنها لاحقاً من تصنيع سلاح نووي، كان الموقف السعودي متحفظاً إزاء الكلام الأميركي الذي لا يدعو للاطمئنان قياساً على واقع الحال، فأكد أن عدم منع إيران من الاستحواذ على السلاح النووي سيدخل المنطقة في مرحلة توترات كبيرة، ويدفع الى استعار سباق تسلح خطير بين دول المنطقة المركزية.

غادر سوليفان السعودية بعدما حاول أن يلملم العلاقات بين البلدين، لكن لا يبدو أنه نجح في ذلك، لأن الخيار المستجد لدى حلفاء أميركا في المنطقة، هو البحث عن مصالحهم أولاً، واستكشاف طرق جديدة لحل أزمات المنطقة. وقد تكون المباحثات السعودية – الإيرانية إحداها، كما وفتح آفاق العلاقات مع الصين وروسيا في عدد من الميادين لا سيما الاقتصادية والتسليحية.

إن إدارة الرئيس جو بايدن تحتاج الى إعادة النظر بسياستها في الشرق الأوسط التي تعيد المنطقة الى مرحلة الرئيس باراك أوباما الذي كان "الخيار الإيراني" هاجسه الأول والأخير في المنطقة. هذه المرة، ومع بروز مؤشرات جدية لعودة هذا الخيار على اكتاف مجموعة عملت في إدارة أوباما، وسوليفان أحدهم، لن يقف الحلفاء ينتظرون أن يبيعهم بايدن المتقلب كما باع حلفاءه في أفغانستان. ستكون بوصلتهم مصالحهم.