بعيداً عن تعريف الديمقراطية بأنها حكم الشعب، أي حكم الغالبية من خلال إقبال كبير على صناديق الاقتراع، تبقى الديمقراطية كمصطلح غير واضح الملامح والمعالم في العالم، بما فيه الدول التي تمارس الديمقراطية منذ عهد بعيد، أو الدول حديثة العهد بالديمقراطية، أو الدول التي تتوق لتصبح ديمقراطية.

وإشكالية المصطلح لا تكمن في التنظير له أو شرحه من خلال مجموعة من الكلمات، لكن من خلال التنفيذ، لأن الديمقراطية ليست فلسفة وإنما هي نظام حكم وإدارة حياة المواطنين وفق مبادئ وقيم وأخلاق وآليات، ونجاحها يتمثل في نسبة تحقيق العدالة والمساواة والرفاهية والعيش الكريم للمواطنين، ولا بد أن تكون النسبة عالية فإذا تدنّت تكون الممارسة الديمقراطية فاشلة وليست النظرية.

وهدف الديمقراطية الأسمى هو أن تتحول إلى أسلوب حياة، بمعنى ممارسة يومية في البيت والشارع والمدرسة والمؤسسة والعلاقات الاجتماعية، ويشمل هذا الأسلوب احترام الاختلاف في اللغة والنوع والدين والثقافة، فإذا تحقق هذا الشرط يكون المجتمع قد قطع شوطاً طويلاً نحو الديمقراطية، أي نحو احترام إنسانية الإنسان وحقوقه، التي تشمل الطفل والمرأة والمسن وأصحاب الهمم، بكل تفرعاتهم.

يجادل كثيرون في مسألة خضوع الأقلية للأغلبية في النظام الديمقراطي، ويرون أنه لا يمكن مصادرة حقوق الأقليات السياسية والاجتماعية والفكرية والإنسانية، فإذا تمت مصادرة حقوق الأقليات يكون النظام قد حقق فشلاً ذريعاً، والبعض يقول إن الديمقراطية الناجحة تحرص على تمثيل الأقليات تمثيلاً حقيقياً في الحكومات، لكنهم، في الواقع يبقون خاضعين للأغلبية إذا ما تم اللجوء إلى التصويت على قرار أو قانون، لكن المفكرين توصلوا إلى حل يتمثل في الحرص على أن تكون القرارات والقوانين عادلة للجميع ولا تمس بشخصية أحد.

في بعض الدول الغربية، أدخلت الديمقراطية كمساق في المناهج التعليمية، كما أدخلت في الممارسة اليومية بين التلاميذ في المدارس، وهذا يدل على أن الديمقراطية يجب أن تكون ضمن مناهج التربية حتى تتحول إلى سلوك. لكن سائلاً يسأل: إذا كانت المناهج تُعنى بقيم الديمقراطية الإنسانية إلى هذا الحد، لماذا لا تزال بعض تلك المجتمعات تعاني العنصرية والتمييز والتنمر على الآخرين من ثقافات مختلفة؟ أليست الديمقراطية هي إذابة الاختلاف بين العناصر والألوان والثقافات الإنسانية، بمعني، عدم رفضها وقبولها والتعايش معها؟

يبدو أننا حين نتحدث عن القيم الديمقراطية، فإننا نتحدث عن المدينة الفاضلة التي لم ولن تتحقق في ظل تنامي الحرص على الخصوصية ونقاء النوع أو الجنس، فترفض، على سبيل المثال، مجتمعات قبول المهاجرين، ومجتمعات أخرى ترفض الملونين، ومجتمعات ثالثة ترفض المتدينين، كل ذلك للحفاظ على نقاء المجتمع وعدم (تلويثه) بممارسات وافدة، أليس هذا فشلاً للتربية الديمقراطية والتعامل مع حقوق الإنسان؟

سنقفز إلى معظم دول العالم العربي التي تحاول أن تطبق الديمقراطية، لنلاحظ أن جميع المحاولات فشلت فشلاً ذريعاً، على أن بعض الدول تدعي بأنها ديمقراطية وتمارس حرية التعبير والمعتقد وخلافه، لكننا نراها غارقة في الطائفية والتمييز والقبلية والعشائرية، وحرية التعبير تحولت إلى شتائم وألفاظ بذيئة في البرلمان نفسه، أي أن ممثل الشعب يشتم ممثلاً آخر للشعب ويصفه بأقسى العبارات. ونرى هذه الدول فاسدة حتى النخاع، وأخص بالذكر الدول التي مرت بما يُسمى «الربيع العربي»، لأنها تريد تطبيق الديمقراطية بعقلية دكتاتورية.

أذكر حديثاً للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عن الديمقراطية، قال رحمه الله، البعض يطالب بالديمقراطية، والإمارات تطبق الديمقراطية منذ زمن، كل مواطن لديه بيت ووظيفة ويعيش حياة كريمة، ويستطيع أي مواطن مقابلة أي مسؤول بسهولة وطرح مشكلته والتعبير عن رأيه، وتتوفّر لكل مواطن الخدمات التعليمية والصحية والعلاجية مجاناً، والإمارات لا تفرّق بين الذكر والأنثى في الحقوق ولا بين الموظف والموظفة في فرص العمل والراتب، وفي الإمارات كل جنسيات العالم تعيش وتعمل وتمارس عباداتها وعاداتها بحرية واحترام. وضحك الشيخ زايد يومها، وقال: «أليست هذه هي الديمقراطية».

نعم، الديمقراطية بعيداً عن التنظير، هي صون كرامة المواطن والمقيم، لهذا نحن ديمقراطيون بامتياز.