يموت اللبنانيون كل يوم ألف ميتة، في بلد ولد مصاباً بألف داء وداء. كان جنيناً مريضاً غير مكتمل، أوهمت الداية الفرنسية أهله أنه مكتمل النمو وقابل للحياة، لكن الحقيقة الصارخة أنه لم يكن كذلك أبداً. كبر الوليد متعثراً، فتكت به الفيروسات السامة والأمراض المزمنة والسرطانية حتى أقعدته كسيحاً طريح الفراش، لا يكاد يقوم حتى يقع، رغم كل حقن المقوّيات ومضادات الالتهابات والأكسدة. تجمّع عليه الأطباء من كل حدب وصوب لكنه لم يستجب للعلاجات، ربما كثرة الطباخين حرقت الطبخة.

لم يصنع اللبنانيون وطناً بحدود قبل "لبنان الكبير"، لا في أيام الفينيقيين ولا في أيام الرومان والإغريق، ولا في أيام العرب ثم الأتراك وغيرهم من الشعوب التي حكمت هذه الرقعة الجغرافية التي أصبحت الجمهورية اللبنانية. كان دائماً جزءاً من محيطه، يتمدد ويتقلص، خاضعاً لحكم الدولة المهيمنة، أحياناً خضوعاً كلياً وأحياناً مع بعض الاستقلالية. كانت الدولة المهيمنة تدير الصراعات الداخلية في هذه البقعة، تأجيجاً أو إهماداً، وكان السكان، قبل أن يصبحوا جميعاً لبنانيين بعد إعلان الدولة عام 1920، خصوصاً في القرن التاسع عشر وأواخر فترة الحكم العثماني للعالم العربي ولبنان منه، يسمّون مسيحيين (التسمية العثمانية نصارى) وسنّة وشيعة ودروزاً وكاثوليكاً... في النصف الثاني من ذلك القرن بلغ الصراع الغربي على التركة القادمة للدولة العثمانية أشدّه في ما عُرف بالمسألة الشرقية، واخترعت الدول الكبرى نظام الحمايات الطائفية، فاقتطعت فرنسا الموارنة وإنكلترا الدروز وروسيا الأرثوذكس، وبقي السنّة من حصة الدولة العثمانية.

حربان طائفيتان في جبل لبنان في 1840 و1860، كانت الثانية أكبر وأعنف، إذ تطوّرت من حرب مارونية - درزية الى مجزرة طائفية امتدت الى الشام، لكل منهما أسبابها المباشرة والعميقة، وكذلك أثرها الذي لم يُمحَ نهائياً. لقد طبعت الحربان العلاقات بين الطوائف اللبنانية لوقت طويل، لكن نظام المتصرفية، مدعوماً من القوى الغربية، أتاح هدنة طويلة بسط فيها العالم جناحيه على لبنان، قبل أن يعلنه المنتصرون على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى دولة بحدود معروفة بلسان قائد الجيوش الفرنسية الجنرال غورو. وهكذا ورث "لبنان الكبير" الذي يتباهى اللبنانيون بصغر حجمه و"عبقريته" فصولاً من الجمر، تمتد على تاريخ طويل من الصراعات والولاءات المتنافرة.

لبنان الذي صنعته الجغرافيا والديموغرافيا الشديدة التنوّع، والاختلاف والتاريخ المتوتّر والدامي، لن يخرج من تحت تأثير كل تلك العوامل التي ستطبع حياته. ولن يستطيع الفكاك من قبضات الإقليم والعالم الأبعد، وسيعود الى نظام الحمايات الدولية كلما اشتدت أزمة، سواء في الداخل أم في الإقليم. وستبقى طوائفه تبحث عن ملاذات في كل مرة تجد نفسها في خطر.

هذا الوطن الذي يموت أبناؤه ألف ميتة في اليوم والمصاب بألف داء وداء، لم يكن يوماً وطناً حقيقياً لكل أبنائه، كان هناك كثر رفضوه، وكثر رفضهم وأقصاهم. لم يعرف كيف يقنع الرافضين ولا كيف يستقطب الذين أقصاهم. ولا كيف يتموضع في الجغرافيا الإقليمية وجيواستراتيجيتها التي ظلت العامل الأساسي في تطوراته السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.

صحيح أن لبنان تحمّل من أعباء الصراع العربي الإسرائيلي أكثر من قدرته، لكن الصحيح أيضاً أن هذا البلد، قبل اتفاق القاهرة (1969) الذي شرّع العمل الفدائي من الأراضي اللبنانية، وأدخل لبنان في خضم الصراع مع إسرائيل وكان من نتائجه ما كان من دمار، كان يعاني أمراضاً داخلية كثيرة، في مقدمتها الطائفية والمذهبية المتوارثة جيلاً بعد جيل وحكماً بعد حكم.

الطائفية والمذهبية هما المرض العضال الذي ضرب كل أعضاء الجسد واحداً بعد الآخر، لكن البلد الذي صوّرته كتب التاريخ والجغرافيا والدعاية السياسية والبروباغندا السياحية جنة الله على أرضه، حيث الجمال والمال، لم يكن كذلك، كان عاصمة يتمركز كل شيء فيها وفي محيطها الساحلي القريب، الحكومة ووزارتها وإداراتها والمصانع والفنادق والمؤسسات السياحية والكازينو والمطار والجامعات والمستشفيات والتجارة بأنواعها. كان بلداً تتمركز معظم ثروته بأيدي طبقة الأربعة في المئة الشهيرة التي تضم التجار من أصحاب الوكالات الحصرية وأصحاب المصارف وكبار الصناعيين ومن شاكلهم وشاركهم من أهل السلطة. كانت الأرياف تعيش في فقر مدقع وإهمال يصل الى حد الحرمان من أساسيات الحياة. من لم يعش في الأرياف اللبنانية قبل الحرب الأهلية قد لا يفهم كثيراً لماذا اندفع هؤلاء الى حمل السلاح لتغيير النظام بالقوة، حتى لو لم تكن الحرب قد اندلعت لأسباب طبقية أساساً.

بحسبة بسيطة لسنوات الحروب (الداخلية والخارجية) ومقدماتها وتداعياتها، يبدو لبنان بلد حروب لا تكاد تهمد حتى تندلع من جديد، تلبس كل مرة لبوساً، لكنها في العمق تعود طائفية ومذهبية. أوليست كل أزمة لبنان الحالية ذات خلفية طائفية؟ أوليس الفساد الإداري واقتسام المغانم وحماية اللصوص وعرقلة تشكيل الحكومات والتعيينات والزبائنية و.... من ظواهر العصبيات الطائفية والمذهبية الممسكة بتلابيب البلد، المرتبطة عقوله وقلوبه بكل الأماكن المعتبرة مقدّسة في كل المنطقة؟

لبنان بلد جائع الآن وجميع اللبنانيين يعرفون سبب جوعه وكيفية الخلاص، وهنا المفارقة: إنهم لا يريدون الخلاص.