يعيش العالم الغربي اليوم مفارقةً جليةً تتمثل في انهيار اليسار فكرياً وأيديولوجياً وانتخابياً، في الوقت الذي تتجذر مشاريعه المجتمعية على صعيد قانون الأسرة والتنظيم الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية، بل والمركزية السياسية المتمثلة في تدخل الدولة الرقابي في كل منافذ الحياة.
ومن قبل، كان يُعتَقَد أن ثورة الشباب عام 1968 التي اجتاحت الجامعات الأميركية والأوروبية هي التي غيّرت تركيبة المجتمعات الغربية، عندما كان اليسار يسيطر على الحقل الثقافي وكانت الأحزاب الشيوعية قويةَ التمثيل في البرلمانات، فاتخذت أكثر القرارات جراءة في المجال الاجتماعي، من إلغاء عقوبة الإعدام والسماح بالإجهاض والزواج المثلي وتقنين المساواة الكاملة بين الجنسين من منظور منطق الإنصاف والعدالة التمييزية.

ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي «ليك فري» هو أن هذه الثورة الفردية التي غيرت تركيبة المجتمعات الغربية ليست نتاج سيطرة اليسار وتفوقه، بل هي من آثار تطور الرأسمالية ذاتها التي تقوم على مبدأ الاستهلاك الأقصى والرفاهية الشخصية الذي يتطلب تحطيم الحواجز السلطوية المعيقة لحرية الفرد ولسيولة ذوقه واستمتاعه.
ويلاحظ «فري» أنه مع انهيار القيم التقليدية الكبرى للمجتمعات الغربية، تغيّرت في الآن نفسه العلاقة بالأبعاد الأساسية للحياة الإنسانية، من الفن (التخلي عن معياري الشكل والإيقاع) وفي التربية (استبدال المعلم بالخبير)، وفي الطبيعة (الانتقال من فكرة استغلال المصادر الطبيعية إلى منظور الحفاظ على البيئة)، وفي السياسة (أولوية الحياة الخاصة على الشأن العمومي).
ما نود أن نعلق به على ملاحظة «ليك فري» الثاقبة هو أن هذه التحولات، وإن كانت واضحةَ الصلة بتطور المجتمعات الرأسمالية الغربية الراهنة، إلا أنها لا يمكن أن تنفصل عن الجدل الفلسفي والفكري المعقَّد الذي ظهر بدايةً من القرن الثامن عشر بين نمطين من تصور وتجسيد مبدأ الذاتية الذي اعتبره هيغل «مبدأ عظمة العصور الحديثة».
النمط الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه «الذاتية الكونية» التي تنطلق من معياري الكرامة الإنسانية والمساواة بين البشر، مقابل التصورات التراتبية الموروثة عن المجتمعات الوسيطة. فالأساس هنا هو اعتماد مرجعيات حقوقية كونية تكفل حرية الإنسان والعدالة داخل مجتمع متساو، من منطلق وحدة الإرادة الجماعية المشتركة والقدرة على التعبير عنها في مؤسسات عمومية شرعية. لا يمكن تصور النظم الديمقراطية الحديثة بدون هذه المرجعية القيمية التي كرّست فرضية المساواة الأصلية بين البشر والقائمة على مسلمات التكافؤ والتناسب والارتباط العضوي بين أفراد المجموعة الإنسانية بمفهومها الكلي.
أما النمط الثاني فهو ما أطلق عليه الفيلسوف الكندي «تشارلز تايلور» عبارة «الأصالة»، أي تحقيق الذات عبر الخيارات الفردية الخصوصية ونمط العيش المميز، في مقابل هيمنة وتحكم المجتمع. وقد ظهر هذا التوجه مبكراً في الثقافة الرومانسية التي سعت إلى الاحتفاء بالأفق الوجودي الفردي والتعبير عنه بالأساليب الجديدة المبتكرة. إلا أن هذا الخيار لم يكن مجرد مسلك تعبيري أو أدبي، بل تحول إلى أساس للأيديولوجيات القومية التي اجتاحت القارة الأوربية في تركيزها على فكرة «روح الشعب»، أي خصوصية الأمة المستندة إلى الهوية الثقافية والتاريخية الذاتية.
لقد أدى هذا الشرخ بين مفهومين متمايزين للذاتية إلى انبثاق إشكالية الاعتراف ضمن نسق ليبرالي يقوم على الفردية الحرة والتعددية المعيارية والقيمية في مجتمع متنوع التركيبة الطبقية والفكرية.
ما نلمسه اليوم هو بروز أزمة مضاعفة للذاتية الكونية ولسياسات ونظم الاعتراف الاجتماعي، بما يفسر طغيان نزعة التميز الفردي، أي ما أطلق عليه تايلور مبدأ تحقيق الذات الأصيل.
لقد لاحظ منذ الثمانينيات «جان فرانسوا ليوتار» أن «السرديات الكبرى» قد انحسرت، وهو يعني القيم والمفاهيم المؤسِّسة للحداثة والتنوير مثل الحقيقة والتاريخ والتقدم والذات.. وما حدث في الآونة الأخيرة هو أن هذا المسار أفضى إلى تنامي النزوع إلى التخلص من الهويات الجماعية التي كرّستها العصور الحديثة، في الوقت الذي كادت أن تنهار كلياً النظم والمؤسسات التقليدية.
إن هذا المأزق هو ما يترجمه الحوار السياسي الحالي بين اتجاه شعبوي محافظ يطمح إلى إعادة الاعتبار للمرجعيات التقليدية في مواجهة حداثة متعطلة ومريضة واتجاه ينزع إلى الحفاظ على تركة الحداثة من منظور العولمة الكونية الحالية بصفتها المحطة الراهنة لديناميكية العصور الحديثة.
ولا شك في أن أزمة اليسار الحالية راجعةٌ إلى كونه لم يعد قادراً على احتواء واستيعاب الموجة التفكيكية المتصاعدة التي قوّضت جذرياً التواضعات والنظم الاجتماعية، دون أن تقدم بدائل نظرية وأيديولوجية جاهزة لامتصاص صدمات المرحلة الراهنة.