حديث تطوير التعليم حديث لا ينضب، إنه يشغل الإنسان أينما كان، وفي كل زمان. ولعل سبب ذلك يكمن في أهمية التعليم، فهو مصدر كل ما نشهده اليوم من اكتشافات وابتكارات، ويريد له الإنسان دائما أن يتطور، وبلا حدود، مستجيبا لمتطلبات العصور المتعاقبة، ومستفيدا من منجزاتها، وقادرا على تقديم عطاء متجدد. وللتعليم عموما، وكما أشرنا في مقالات سابقة محوران رئيسان: محور يرتبط بالتأهيل المعرفي، ثم محور يهتم بتنمية الإمكانات الذهنية، وتحفيز التعلم، والتدريب على التفكير وتقديم أفكار جديدة ومتجددة تحمل قيمة. وفي النظر إلى مستقبل التعليم، والسعي إلى تطويره يطرح هذا المقال باختصار، خمسة أبعاد رئيسة لتوجهات التطوير. وتشمل هذه الأبعاد: البعد الشخصي، والبعد الثقافي، والبعد الاجتماعي، والبعد المهني، إضافة إلى البعد السيبراني.
إذا بدأنا بالبعد الشخصي تبرز أمامنا أمور عدة. فهناك التميز الشخصي للإنسان، أي: الموهبة والإمكانات الخاصة التي يتمتع بها في هذا المجال أو ذاك. ثم هناك عقلية الإنسان والصفات التي تتمتع بها، وتأتي هذه الصفات مقرونة بالمرونة، وما يعرف بالعقلية الثابتة والعقلية النامية. وهناك بعد ذلك ميول الإنسان مثل الهواية والشغف بموضوعات محددة أو أعمال مرغوبة. ويتبع ذلك قدرة الإنسان على التعلم واكتساب مهارات الحياة، وشغفه بالبحث عنها والاستزادة منها، والتوجه نحو التعلم المستمر، خصوصا في مجالات المعرفة الحية والمهارات المفيدة القابلة للتطبيق وتقديم قيمة. ويضاف إلى ذلك الأخلاقيات الشخصية والالتزام بالمبادئ، والابتعاد عن الغش والأعمال غير المحمودة. وعلى التعليم في مسيرة تطوره أن يسعى إلى التعامل الإيجابي مع مثل هذه الأمور الشخصية المهمة، وتنمية الإنسان، وتفعيل إمكاناته.
وننتقل إلى البعد الثقافي الذي يشمل كلا من الثقافة المحلية التي ينبغي الالتزام بها والمحافظة عليها، وعلى أصالة الانتماء والهوية من جهة، ثم الثقافات الأخرى حول العالم التي ينبغي التعرف عليها واستيعاب شؤونها من جهة أخرى. فلأن العالم بات متكاملا عبر الفضاء السيبراني، والسفر والتنقل، وتفعيل التعامل المعرفي والتجاري والشخصي في شتى مجالات الحياة، أصبح على كل إنسان أن يتعرف على ثقافات العالم كي يستطيع التعامل بإيجابية مع الآخرين، لما في ذلك من خير وفائدة للجميع، وبما يحقق توافق الثقافات، وإدارة الاختلافات، وتجنب الصراعات. هذه النظرة الثقافية الشاملة التي تحفظ الهوية، وتدعو إلى التعامل الإيجابي مع الآخرين، باتت ضرورة لجميع الأمم، ولا شك أن للتعليم دورا مهما في تعزيزها.
ونأتي إلى البعد الاجتماعي الذي يتكامل مع البعدين السابقين، البعد الشخصي والبعد الثقافي، ويستند إليهما. جوهر هذا البعد هو السلوك الاجتماعي وكيفية التعامل مع الآخرين. وفي إطار هذا السلوك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لعلنا نتذكر موضوع الذكاء العاطفي القابل للاكتساب وأثره في السلوك الاجتماعي. يقضي هذا الذكاء بمراقبة عقل الإنسان لحالته العاطفية ومزاجه الشخصي، مع مراقبة حالة عواطف ومزاج من حوله، وتلقي إشارات بشأن ذلك، واختيار السلوك الأفضل المناسب للشخص ذاته ولمن حوله. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة الذكاء العاطفي هذه تبدو بسيطة وقابلة للتطبيق، لكنها على أرض الواقع لا تأتي بشكل تلقائي إلا من خلال الممارسة والتعود. ويستطيع التعليم أن يلعب دورا مهما في اكتساب الناشئة لهذا الذكاء، وجعل أبناء المجتمع أكثر قدرة على التواصل والتعاون. وهناك بالطبع معطيات أخرى بشأن البعد الاجتماعي تستحق الطرح في المستقبل.
وننتقل إلى البعد المهني الذي يرتبط بشؤون العمل والعطاء المادي الملموس والتنمية الاقتصادية في المجالات المختلفة. ويستند البعد المهني إلى البعد الشخصي الذي يسعى إلى تنمية الإنسان وتفعيل إمكاناته. كما يرتبط بالبعد الثقافي الذي يهتم بحسن التواصل مع أصحاب الثقافات الأخرى. ويتعلق أيضا بالبعد الاجتماعي ومهارات التعامل والتعاون مع الجميع. كل ذلك في خدمة العمل المهني وكفاءته ومنجزاته وإسهامه في التنمية الاقتصادية.
وفي إطار هذا البعد المهني، هناك معطيات ومتطلبات وتحديات متغيرة، مع الزمن والتقدم العلمي والتقني، ينبغي التنبه لها والاستجابة لمضامينها، وربما دخول باب المنافسة في بعض موضوعاتها. وتحتاج مثل هذه المنافسة إلى إمكانات الإبداع والابتكار على مستوى البعد الشخصي من ناحية، وإمكانات الاستثمار والتعاون مع الآخرين ضمن معطيات البعدين الثقافي والاجتماعي من ناحية أخرى. وتشجيعا لذلك ودعما للعمل المهني بشأنه تقدم هيئة المعايير الدولية معايير وتوصيات بشأن الابتكار في المؤسسات ضمن سلسلة وثائقها ISO 56000. ولا شك أن للتعليم دورا مهما في البعد المهني، جوهره الاستفادة من الأبعاد الأخرى، ورصد الموضوعات المفيدة والتهيئة للمنافسة، وتقديم معطيات متميزة.
ونصل إلى البعد السيبراني واسع الأثر في حياتنا في هذا العصر، بل متعاظم الأثر أيضا مع تقدمه المستمر وزيادة تطبيقاته، خصوصا في جانب التوجه نحو العمل عن بعد من جهة، وفي جانب تفعيل الاستفادة من الإمكانات المتميزة والمتجددة للذكاء الاصطناعي من جهة أخرى، فضلا عن تكامل إمكانات الجانبين معا. في هذا الإطار، يقدم العالم السيبراني للتعليم إمكانية التعلم عن بعد معززة بالذكاء الاصطناعي. ولا بد من الاستفادة من ذلك في توفير النفقات وتفعيل معطيات التعليم وفوائده. وإذا كان التعليم يحتاج في بعض الأحيان إلى التواصل المباشر، فإن التعليم المدمج المتضمن كلا من التعليم عن بعد والتعليم المباشر، تبعا لطبيعة المقررات المطروحة، حل ناجع لذلك. وقد شهد هذا الحل اهتماما خاصا في قمة العشرين التي عقدت عن بعد عام 2020، تحت رعاية المملكة.
لا شك أن تطوير التعليم قضية مستقبلية مهمة، ومسألة مستمرة تبدأ ولا تنتهي، وأصحاب العلاقة بهذه القضية هم أبناء المجتمع بأسره، ولا استثناء لأحد. هم الطلبة، والآباء، والمدرسون، والمسؤولون في القطاعين العام والخاص، حيث يتوجه الخريجون. والأمل في الختام أن يكون هذا المقال مفيدا للجميع في طرحه التطوير المستمر المنشود للتفكير عبر أبعاد خمسة هي: البعد الشخصي، والبعد الثقافي، والبعد الاجتماعي، والبعد المهني، إضافة إلى البعد السيبراني.