التوطين مشروع وطني استراتيجي وهو بهذه الصفة وفي بلد كبير بحجم القارة هو المملكة العربية السعودية - يمر بمرحلة تطوير شاملة ومشاريع تنموية ضخمة -، هذا التوطين يطرح للحوار من منطلقات وطنية. هذا الحوار حين يتسم بالشمولية والموضوعية سيؤدي إلى تنظيمات تحقق أهداف التوطين بما يتفق مع الاحتياجات الوطنية.

الملاحظ في السنوات الأخيرة توجه عملي مخلص في مسيرة التوطين تمثل في صدور قرارات في هذا الشأن للتوطين في مجالات متعددة. هذه القرارات تقابل بالترحيب حال صدورها. بعض تلك القرارات تنجح في التطبيق، وبعضها لا يحقق النجاح المطلوب. أسباب النجاح وعدم النجاح نحاول التعرف عليها من خلال هذا الحوار:

قلت: ما أسباب نجاح التوطين في قطاعات دون أخرى؟

قال: أحد الأسباب يكمن في الصورة الذهنية في المجتمع لبعض المهن؟

قلت: ماذا تقصد؟

قال: انظر للمواطن الذي يقبل العمل في المقاهي والأسواق وقارن ذلك كمثال بالإقبال على ورش الصيانة.

قلت: ما الفرق؟

قال: بيئة العمل وخاصة المكانية، خلال عقود أصبحت بيئة العمل المكانية غير جاذبة وأكاد أقول مشوهة في بعض المهن بسبب معايير جاءت إلينا من بيئات مختلفة فأصبحت بيئة طاردة بسبب غياب اشتراطات ومعايير من الجهة المختصة. ومن يزور الورش سيرى هذا الواقع.

قلت: ما الأسباب التي تعيق تطبيق بعض قرارات التوطين؟

قال: هذا سؤال جوهري كبير هو الأهم. يمكن القول إن القرارات التي تطبق كما يجب هي تلك القرارات التي تنطلق من دراسة الوضع الراهن بالتشخيص وتحديد المشكلات، والنظرة الشمولية لكافة العوامل ذات العلاقة بقضية التوطين، والتدرج في التوطين حسب خطط واضحة.

قلت: هذه إجابة دبلوماسية، هل يمكن التحديد؟

قال: الطرح العاطفي لقضية التوطين قد يؤدي أحياناً إلى قرارات غير مكتملة. هذه القرارات عندما تنزل إلى أرض الواقع يتضح وجود عوامل لم تؤخذ في الاعتبار.

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل الفرق بين المدن والقرى في ظروف التوطين.

قلت: ممكن توضيح أكثر؟

قال: خذ مثلاً توطين مهن التخصصات الصحية والأجهزة الطبية.

قلت: أين المشكلة؟

قال: القرار يحدد أن النسبة المستهدفة هي 60 %. كان يفترض أن يتسم القرار بالمرونة ويراعي واقع القرى فيقال مثلاً، على القرى التي يتوفر فيها مستوصف ولا تجد سعودياً للتوظيف أن تعرض على بوابة التوطين الوظيفة التي يشغلها الأجنبي فإذا وجد من تتوفر فيه الشروط من السعوديين يلتحق بالوظيفة بعد انتهاء عقد من يشغلها من الوافدين.

قلت: ما العوامل الأخرى التي لا تؤخذ في الاعتبار؟

قال: القبول في الجامعات، أليس من المناسب الأخذ في الاعتبار احتياجات المدن والقرى من القوى البشرية واعتبار ذلك في سياسات القبول في الجامعات بحيث يدخل مكان إقامة المتقدم كأحد عناصر القبول ولو بنسبة ضئيلة، فما فائدة أن يكون المقبولون في تخصصات حيوية للمجتمع كالصحية مثلاً كلهم من مدن كبيرة ثم تأتي المعاناة في تحفيزهم للعمل خارج المدن الرئيسة وفي قرى المملكة الأخرى التي تحتاج لنفس الخدمات ولا تجد من يقبل العمل بها إلا إذا كان من أهلها ومقيماً فيها.

قلت: أشرت إلى الصورة الذهنية لبعض المهن كسبب من أسباب نجاح أو فشل التوطين. هل هذا سبب كافٍ للتأثير؟

قال: حين نتحدث عن بيئة العمل وعلاقتها بالتوطين فهذا لا يقتصر على البيئة المكانية وإنما يشمل الوضع الراهن بكل تفاصيله بالنسبة للمواطن والوافد من حيث الأجور والالتزامات الاجتماعية وساعات العمل وظروف العمل المادية والأمن الوظيفي والعلاقة التعاقدية وغيرها من التفاصيل التي تجعل بيئة العمل في القطاع الحكومي بيئة جاذبة مقارنة بالقطاع الخاص.

قلت: الصورة الكبرى تجعلنا نتطلع بتفاؤل إلى استراتيجية التنمية الشاملة في المملكة وما تتضمنه من مشروعات وطنية تتمثل في استثمارات نوعية ستساهم في تنويع مصادر الدخل الوطني وتوفير الفرص الوظيفية للمواطنين. هنا يأتي دور التعليم والتدريب والتأهيل، ودور وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.

قال: ولا ننسى أن الحديث عن التوظيف والتوطين يتفرع إلى مسارات مختلفة فهو لا يقتصر على الأعمال الفنية والمهنية والتجارية فكل الوظائف والأعمال مهمة في كل المجالات والمستويات. إنها قضية وطنية اقتصادية وأمنية واجتماعية ومستقبلية، خذ مثلاً معاناة بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي من نقص في سائقي شاحنات النقل فاضطرت للاستعانة بالجيش، وكانت قبل ذلك تعتمد على سائقين وافدين.

قلت: أكيد، هي قضية وطنية بالغة الأهمية ومتشعبة وتتطلب الطرح الموضوعي. مجالات التوطين والتوظيف واسعة ومتنوعة ولم نتطرق إلا لجزء منها، وقد نتحدث عن المجالات الأخرى في حوار آخر.