عبث. كل ما يجري في لبنان عبث لا نهاية له. سيظل العابثون يعبثون وسيظل اللبنانيون ضحايا عبث الكبار، يدفعون من دمهم ولحمهم أثماناً لصفقات لم يعقدوها ولم يجنوا ثمارها ولن يجنوا يوماً. وسيجدون أنفسهم دائماً مرميين في الطرق قتلى وجرحى، وفي الحارات والمنازل جوعى يئنون ويشكون ولا من ينجدهم.

لا داعي لمقارنة لبنان وأحوال أهله بأي بلد في العالم، هو في القاع مع بعض أشقائه العرب وكفى. يقال في المتداول الشعبي إن فلاناً تجوز عليه الحسنة لشدة فقره وتعتيره، ولبنان تجوز عليه الحسنة بعدما انحدر معظم أبناء شعبه الى ما دون خط الفقر، وما زالوا في انحدار لا قرار له.

تجوز عليه الحسنة لكن لا محسنين. لا أحد يعطي فقيراً يحمل سلاحاً للقتل أو متسولاً يركب سيارة أو عاطلاً من العمل يأنف من العمل بيديه، أو معدماً يهتف لسارقه، أو مريضاً يشتم طبيبه...

الأعظم لم يأت بعد، لكنه متوقع وآت وكل آت قريب. ما كان أحد من اللبنانيين يتوقع قبل سنتين أن يصل الانهيار الى هذا الدرك، لكنه وصل، وبسرعة، والجميع الآن مقتنع ويعرف أن ما هو آت سيكون فظيعاً ولا قدرة على تحمله. ما هو سر هذا السكون وهذا الاستسلام الرهيبين؟ هل هو الإيمان بالقدر خيره وشره؟ هل هو التسليم بالإرادة وبالأرواح لأولي الأمر والولاية؟ هل هو انتظار يوم القيامة الذي أزف موعده بحسب إشارات متوارثة لدى المتدينين؟

عبث، كل ما يجري في لبنان عبث لا نهاية له.

لم يبدأ العام الدراسي في لبنان طبيعياً بعد، ولن يبدأ إلا للمحظوظين من أبناء "الذوات" الذين يرتادون مدارس الإرساليات والبعثات وبعض المدارس العلمانية الأرستقراطية. البقية ضائعون بين التعليم الرسمي الفقير والتعليم الخاص المتداعي، بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد.

كيف يدفع قسط المدرسة من لا يملك ثمن ربطة خبز يطعم بها أولاده؟ من أين يأتي بأجرة الباص أو بثمن بنزين السيارة الذي أصبحت تعبئة خزان السيارة به تساوي ضعفي الحد الأدنى للأجور؟ ماذا عن الكهرباء التي يستهلك المنزل اللبناني الفقير منها ما قيمته 500 ألف ليرة في الحد الأدنى، فيما الموظف البسيط أو الجندي أو الشرطي أو معلم المدرسة لا يتجاوز راتبه الشهري المليون ليرة (50 دولاراً حالياً) ويقل عن ذلك لدى العمال، لا سيما المياومين منهم، فيصل الى 600 ألف ليرة (30 دولاراً).

لن ينتقل طلاب الجامعات من المناطق الى الجامعات، خصوصاً طلاب الجامعة الوطنية الرسمية المجانية الوحيدة، وهي تستقطب كل أبناء الطبقة الفقيرة ومعظم المتوسطة حالياً، بعدما امّحت هذه الطبقة بفعل الفقر. لن يستطيعوا دفع مئة ألف ليرة بدل نقل يومياً، فكيف يالمصاريف الأخرى؟ بل قد لا يستطيع أساتذتهم تحمل هذه الكلفة، وبعضهم يحتاج يومياً الى 200 ألف ليرة أو أكثر ثمن وقود، ومعظمهم متعاقدون بالساعة لا يحصلون على أكثر من ألف دولار في السنة؟

لن ينتقل الطلاب الى مقاعدهم في الثانوية وفي الجامعة، ولن يدرسوا أونلاين. خدمة الأونلاين مرتبطة بالإنترنت، والإنترنت مرتبطة بالكهرباء، والكهرباء مرتبطة بالفيول، والفيول بحاجة الى مال، ولا مال لا مع الدولة ولا مع المواطن، ولا أحد يحن على هذا البلد الطفران.

سيكون عاماً دراسياً سوريالياً. ستكون تداعياته كارثية على الناس وأولادهم وعلى المنظومة التربوية برمّتها، وعلى مستوى الشهادات وسمعة التعليم في لبنان الذي كان يوماً ما رائداً. لن يتسجل كثيرون وسيتسرب الآلاف الى سوق العمل بفعل الحاجة، وستقفل مدارس، وسيجد معلمون وموظفون أنفسهم بلا عمل أو بعمل مخفوض الأجر. سيتمنى كثر من الآباء لو أنهم لم ينجبوا، وسيمتنع الأزواج الجدد عن الإنجاب ولن يتزوج أحد بعد اليوم، إلا من ركب رأسه، أو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب.

في لبنان حيث لا دولة ولا من يتحمل المسؤولية، وحيث لا من يحاسب ولا من يستقيل ولا من يزيح ولا من يثور، كما يليق بالثورة والثوار، سيبقى العبث سيد الساحة.

عبث، كله عبث، ما لجرح بميت إيلام.