فكرة أن الجيش السوداني يريد حماية البلاد وضمان استقرارها وأنه “جيش وطني”، أكذوبة حان الوقت لكي تُدحض.

إنه جيش له تاريخ أسود في ممارسة الانتهاكات والجرائم وأعمال التمييز ضد السودانيين. وهناك جوانب كثيرة منه تُنسب لها جرائم ترقى إلى جرائم حرب. وعمر حسن البشير الذي يُفترض أن تجري محاكمته على “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية” في لاهاي بسبب أعمال قادها جيشه في دارفور وغيرها، كان في الواقع يحرك جيشا يتوافق مع تصوره للأمور، وإلا ما دامت الحرب، بكل ما انطوت عليه، لنحو عقد من الزمن من دون أن يعترض عليها ضابط واحد. ولا واحد، بمن فيهم عبدالفتاح البرهان هذا. فكيف صاروا الآن “وطنيين”؟ ومن أين جاءتهم الوطنية أصلا؟ هل نزلت عليهم كما ينزل الوحي؟ أم أن طباعهم هي التي توحي لهم: أن اركبوا الموجة، قبل أن تنقلبوا عليها؟

وهو جيش انقلابات. وإن لم يجد ضباطه مَنْ ينقلبون عليه، انقلبوا على بعضهم. هذا ما يقوله السجل التاريخي للبلاد منذ استقلالها حتى الآن. حتى ليحسب كل رفيع الرتبة أنه مؤهل لكي يجلس على مقعد الرئاسة متى ما تهيأت له الظروف.

البرلمان، في عهد سلطة الجيش، سوف يكون أشبه بمعسكر، وهو قد يبدو مهزلة قياسا بديمقراطيات دول العالم الأخرى. ولكن هذه المهزلة أرحم من مهزلة الانقلابات المتواصلة

وعندما حاولتُ أن أنقل سطورا من هذا السجل المخزي للمحاولات الانقلابية الناجحة والفاشلة التي قادها الجيش السوداني، منذ العام 1957، وجدت الصفحة امتلأت، فعدلتُ عن المحاولة.

ولشدة ولعه بالسلطة، فإنه “جيش سياسي” وليس جيشا عسكريا. هذه كذبة أخرى لا تحتاج أن تُدحض.

فقد ركب على السلطة في البلاد عددا من السنوات أطول بكثير مما قادها المدنيون. حتى لتبدو أحزابهم مجرد أدوات احتجاج، تنطلق ثم تُقمع. تُسترضى حينا، ثم تُركل أحيانا أخرى. وما من زعيم سياسي مدني عرفته البلاد إلا وتعرض للسجن والإهانة من جانب ضباط يُحركهم ضباط، حتى توفر لقادة الجيش شعور بالتعالي على كل طبقة المدنيين، لا لشيء إلا لأنهم اعتادوا إهانتها والاستخفاف بها.

وكان من بين أول ما فعله البرهان في انقلابه الأخير هو أنه اعتقل وزراء الحكومة ورئيسها. لأنه شعر أن ذلك هو أول ما يجب أن يفعله: إهانة مَنْ يعتبرهم أقل منه شأنا، والذين لا يساوي أي واحد، في نظره، ثمن حذائه المُبارك. ولكنه ترك وزيرة الخارجية، لأنها شبعت اعتقالات من قبل. بمعنى أنها تلقت من الإهانة ما يكفي، في عهد قائده البشير.

وإذا كان السودان قد تعرض للانقسام، فبسبب ما ظل الجيش يرتكبه من أعمال وحشية ضد سودانيي الجنوب، حتى أصبح الانفصال هو الحل. وفي هذا ما ينزع عن الجيش فكرة أنه “يحافظ على وحدة البلاد”، لأنه ما من أحد تكفل بتدميرها إلا هو.

ولكي يُنفذ انقلابا، فإن الجيش يمكن أن يبتدع أي ذريعة. البشير على سبيل المثال، انقلب على حكومة منتخبة، بسبب ارتفاع التضخم. فزاد تحت سلطته عشرة أضعاف. ويمكن لأي عسكري أن ينفذ انقلابا إذا ارتفعت أسعار الملح، أو إذا نقص البيض في الأسواق، أو إذا قالت عشيقة قائد اللواء إنها تتمنى له أن يكون رئيسا. فلأجل سواد عينيها، يعمل انقلابا، ويصبح وطنيا ويحمي سيادة البلاد واستقلالها.

الآن وقد عاد البرهان ليمارس استعلاءه على طبقة المدنيين، وليضيف اسمه إلى سجل الخزي العظيم، فقد حان الوقت، للسودانيين أن يتعاملوا مع جيشهم بواقعية. وهو أنهم مهما فعلوا، فإن جيشهم سينفذ ضدهم انقلابا آخر، ثم آخر، إلى ما لا نهاية. ولا يهم أي نوع من الحكومة يقيمون. يسارية أو يمينية، اشتراكية أو رأسمالية، ثورية أو رجعية، دينية أو لادينية، فإن الجيش سوف ينقلب عليها، في آخر المطاف، لأن الانقلابات هي المقصد، وهي مصدر شعور الجيش بالأهمية، وهي سبب استعلاء ضباطه على المدنيين المغلوبين على أمرهم.

حل هذا الجيش، لا يبدو خيارا واقعيا. لأن الجيش سوف ينقلب على أي حكومة تقول بذلك، حتى ولو تكاتف من حولها العالم بأسره، وحتى ولو انتهت البلاد إلى الغرق في قاع الجحيم.

ولا فائدة من الوقوع ضحية أعمال قتل وجرائم ضد الإنسانية بالنسبة إلى من اعتادوا ممارستها، وكأنها “حق طبيعي” لهم.

وبما أنه جيش مولع بالسياسة وراغب بالسلطة، ومعجب بنفسه، ويعتقد أنه قاد البلاد في تجاربه الانقلابية السابقة إلى الفلاح والتقدم والثراء الفاحش، فما الذي يمنع أن يتم منحه الفرصة لكي يتولى السلطة كحزب سياسي مثله مثل باقي الأحزاب الأخرى؟

الديمقراطية لعبة توافقات، على قواعد. وبدلا من استبعاد الجيش من ممارسة السلطة، فإنه يمكن عرضها عليه ليتولاها بوسائل ديمقراطية.

غياب هذه القاعدة، هو ما دفع البرهان إلى الشعور بالاكتئاب المبكر، فأسرع منقلبا. ولكن لا يزال من الممكن إقناع هذا الجيش بأنه يمكن أن يدخل المنافسة الديمقراطية كحزب يتطلع إلى السلطة، بشرط أن يدخل الانتخابات بسلام، ويخرج منها بسلام. يحكم إذا فاز، ويخرج من السلطة إذا خسر، وأن يكف عن القيام بأي انقلابات أخرى.

هذا هو “التقاسم” الصحيح للسلطة. إنه تقاسم يعطي كل طرف راغب بالسلطة حقه، من دون أن يغبط حق الطرف الآخر.

يمكن لهذا الجيش أن يدخل الانتخابات بالقول إنه يريد حماية البلاد واستقرارها، ويحافظ على وحدتها وأنه جيش وطني،… إلخ. لا توجد مشكلة. الكلام الرخيص لا يؤذي أحدا.

ويمتلك هذا الجيش ميزة تجعله يتفوق على الكثير من الأحزاب. فهو يستطيع أن يكون يساريا أو يمينيا، اشتراكيا أو رأسماليا، ثوريا أو رجعيا. كما يستطيع أن يكون كل هذا دفعة واحدة. فطالما أن طبيعته “الوطنية” المفرطة هي التي تقوده إلى طلب السلطة، فإنه يستطيع أن يتبنى كل الأيديولوجيات، حسب احتياجاته “الفكرية” كلها. وهو أمر لا تستطيع الأحزاب الأخرى أن تفعله.

هذا الجيش العظيم والمستعلي والذي “حافظ على وحدة البلاد”، يمكنه أن يُظهر قدرته ليس على إهانة الناس والاستخفاف بهم فقط، ولكن يمكنه أيضا أن يُظهر قدرته على الحكم وفقا للقواعد ذاتها التي تقبل بها الأحزاب الأخرى.

هذه الأحزاب تعرف، بحسب تاريخها، أنها كلما حاولت أن تتمسك بالقواعد الديمقراطية، انقلب عليها الجيش ليفرض قواعده هو، عنوة. فتضطر للاحتجاج وتعود البلاد لتدور في دائرة التخريب المتراكم. ولكنها عندما تقبل بالجيش كحزب سياسي، فإنه يستطيع أن يحكم من دون احتجاجات ضد سلطته الشرعية.

هو جيش انقلابات. وإن لم يجد ضباطه مَنْ ينقلبون عليه، انقلبوا على بعضهم. هذا ما يقوله السجل التاريخي للبلاد منذ استقلالها حتى الآن

البرلمان، في عهد سلطة الجيش، سوف يكون أشبه بمعسكر، وهو قد يبدو مهزلة قياسا بديمقراطيات دول العالم الأخرى. ولكن هذه المهزلة أرحم من مهزلة الانقلابات المتواصلة.

بلا تقاسم سلطة، وبلا مجلس سيادة مشترك، وبلا نكران للواقع. الجيش في السودان، خلقه الله لكي يقوم بانقلابات. وكل ما يحتاج السودانيون إليه هو أن يضعوا قواعد جديدة للعبة لا تحرم هذا الجيش العظيم من حقه في قيادة السلطة، على سوية مع الأحزاب الأخرى.

لا حاجة طبعا لحماية البلاد من أي تهديد خارجي. السودان الذي لا يهدده أحد، يكفيه أن يحمي نفسه من جيشه.