أقيم قبل أسبوع أربعة معارض خلال أربعة أيام في دبي، كانت عن التعليم، والتقنية والكيميائيات، ومعرض عن البلاستيك، وآخر هو دبي للطيران، وهو الأكبر والأكثر تنظيماً من بين كل المعارض، لا يقام مثله إلا في بريطانيا وفرنسا وبالتناوب كل عام، إضافة إلى إكسبو 2020 الذي يقام لأول مرة في الشرق الأوسط، وفازت به دبي بعد منافسة شديدة من روسيا والبرازيل وتركيا.

دبي نبتة غريبة في صحرائنا العربية، بذرتها من شجرة موطنها الأصلي هو أوروبا الغربية حيث وجدت التربة الصالحة والمناخ المناسب، (العلم والقيادة والإرادة والحرية) ثم انتقلت بذورها إلى دول قليلة على مستوى العالم، أخذها معهم المهاجرون إلى أميركا الشمالية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. أما اليابان فقد حولت هزيمتها في الحرب العالمية الثانية إلى انتصار اقتصادي أساسه جودة التعليم والصناعة مضاف إليها عنصر الجودة الشاملة والانضباط العجيب، ومن اليابان انتقلت عدوى التقدم إلى ما سمي بالنمور الآسيوية "كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ".

دبي كانت نموذجاً لما حصل في كل من هونغ كونغ وسنغافورة، بل إن كثيرا ممن عمل في هونغ كونغ انتقل إلى سنغافورة، وبعضهم انتقل إلى دبي حين رأى الفرص الواعدة والقيادة القادرة على تنفيذ ما تتطلبه التنمية والبناء، أحدهم قابلته يعمل في المجال المالي، وكان يعمل في كل من هونغ كونغ وسنغافورة.

وقد بدأت نهضة دبي في عهد الشيخ راشد آل مكتوم في الستينات من القرن الماضي حين عانت الإمارة من تردي إيرادات النفط، حينها أدرك الشيخ راشد خطورة الاعتماد على ثروات ناضبة، فشرع في تشييد ميناء راشد، وأوجد فيه جميع التسهيلات التي ضمنت له النجاح الباهر، ليتبعها بمشاريع صناعية وتجارية من أهمها بناء مركز دبي التجاري ليلعب دوراً محورياً في تجارة المنطقة، يليه بناء ميناء جبل علي الحر، والذي صنف على مدى عشرين عاما كأفضل موانئ الشرق الأوسط، وفي عام 1985 أنشئت طيران الإمارات لتكون وسيلة ربط إمارة دبي بالعالم، وأفضل تسويق سياحي وتجاري لها، أما مطار دبي فقد تفوق على مطار هيثرو في عام 2018 ليستقبل 90 مليون راكب في ذلك العام.

وفي نظري أن من أهم عوامل نجاح هذه الإمارة هو فيما يلي:

أولاً. العامل الحاسم في النجاح هو القيادة، فقد رزقت دبي والإمارات بشكل عام بقادة حالمين هم الشيخ راشد بن سعيد حاكم دبي السابق، والشيخ زايد حاكم الإمارات أكبر مشجع على العلم والاهتمام بالإنسان والبيئة، والشيخ محمد بن راشد الذي واصل مسيرة والده وأطلق رؤيته لتكون دبي مدينة المستقبل، والأفضل للحياة في العالم وقال: "لا وجود للمستحيل في قاموس الإمارة" وقد كان الشبه كثيراً بينه وبين باني سنغافورة "لي كون يو" فقد اهتم بجميع التفاصيل وركز على الجودة في إقامة المباني والطرق والأرصفة واهتم كثيراً بالمنشآت السياحية والبيئة.

ثانياً. بدأت دبي في بناء بنيتها التحتية ومشاريعها من حيث انتهى الآخرون، فلا حاجة لإعادة اختراع العجلة، وهذه هي أفضل وسيلة لتجنب الأخطاء والاستفادة من الخبرات الأجنبية للدول المتقدمة، وقد جرّبت ذلك المملكة حين أوجدت أرامكو بشراكة أميركية، ومثلها الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وغيرها من المستشفيات الناجحة، والمعاهد كمعهد الإدارة العامة.

ثالثاً. ركزت دبي على الجانب الاقتصادي بعيداً عن السياسة ما أمكن ذلك، وكما كان في سنغافورة تماماً، فقد فتحت دبي شهيتها لجميع الاستثمارات من دول العالم، وأوجدت الحوافز للدول المستثمرة والأفراد، وكافحت الفساد، العدو الأول للاقتصاد، والطارد للاستثمارات الأجنبية، بعكس دول كثيرة في العالم الثالث تغلغل فيها الفساد وانشغلت بالسياسة والهاجس الأمني على حساب التنمية والتقدم، وأكثرها انبهر بالاتحاد السوفييتي، ليس من قبل قادة العالم الثالث فقط، ولكن حتى كثير من المثقفين العرب ظنوا أن الخلاص مما هم فيه من تردي الأوضاع ومصادرة الحريات والنكسات سيكون من الاتحاد السوفييتي ومشروعه الأيديولوجي.

أثبتت دبي وقبلها المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وجميع أبنائه من بعده أن وجود علاقات متوازنة مع كل القوى المؤثرة في العالم هو أفضل وسيلة للازدهار وتجنب الصراعات الداخلية والخارجية.

لقد كانت دبي ملهمة للكثير من الدول. وقد راهن البعض على عدم استطاعتها الصمود أمام الهزات العالمية كعام 2008، لكنها أثبتت للجميع أنها باقية كبلد جميل مزدهر ومتطور، أثبتت دبي أنه إذا وجدت الإرادة السياسية القوية تذللت جميع الصعاب.