انفردت منصة «بلومبرغ» للأعمال، الأكثر مقروئية على مستوى التقارير الاقتصادية والمالية، بشهادة تاريخية أشبه باعتراف بنجاحات السعودية ورؤيتها وإدارتها للأزمات، من «كورونا» إلى أسعار النفط وتقلباته.
التقرير حمل عنواناً مستفيضاً عن السيولة النقدية، وكيف أن هذه القوة السعودية الضاربة الصاعدة جزء من مخرجات «رؤية 2030»، وعرابها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي وصفه التقرير بأنه ضخ القرن الحادي والعشرين في أوردة المجتمع السعودي، وانعكاسات ذلك على قدرة السعودية التفاوضية العالية في أسواق النفط والمال، إضافة إلى دبلوماسيتها التي ترتكز على السيادة.
في المقابل، تحدث التقرير، ولو مواربة، عن تخبط وتناقضات مقاربة «السعودية المتجددة»، لا سيما بعد ارتفاع أسعار النفط. فرغم المناشدات المعلنة، فإن التقرير كشف عن حملات كثيفة لدبلوماسيين ومبعوثين أميركيين بالدرجة الأولى لمحاولة إقناع السعودية بضخ مزيد من النفط الخام بأسرع وقت، أو ما وصفه بمحاولات الضغط الدبلوماسي، إلا أن موقف القيادة السعودية الذي عبر عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وشرحه بشكل أكثر تفصيلاً وزير الطاقة الأمير المخضرم عبد العزيز بن سلمان، كان متمركزاً حول مصلحة البلاد والعباد، ومؤشرات أسواق العرض والطلب، من دون أي اعتبارات جانبية.
وبعيداً عن تحليلات تقرير «بلومبرغ» عن انعكاس دبلوماسية الطاقة الجديدة، وانتصارات «أوبك بلس»، بقيادة السعودية، التي تحدثت عنها في مقال سابق عن ثنائية الدفء والمناخ، فإن الأهم هو ما بدا واضحاً في الأطروحات المنصفة عن صعود السعودية، ورؤيتها التي تحولت إلى نموذج ملهم لدول المنطقة، بل موضع طلب من كثير من القوى والكيانات والشخصيات الفاعلة في بلدان مجاورة، مما موضع السعودية بصفتها قوة استثمارية عالمية، من خلال صندوق الاستثمار العام بقيمة 450 مليار دولار، وهو صندوق الثروة السيادية الذي يُراد له أن ينمو إلى تريليون دولار بحلول عام 2025.
وأما عن زيادة الإنتاج، بحسب جيسون بوردوف عميد كلية كولومبيا للمناخ مسؤول الطاقة الكبير السابق في البيت الأبيض في عهد الرئيس باراك أوباما، فإن «السعودية في وضع قوي»؛ وهي شهادة ذات قيمة عالية إذا ما تأملنا خلفية صاحبها.
الاقتصاد العالمي مدمن على النفط، رغم كل شعارات مكافحة تغير المناخ التي هي في عين الاعتبار بالنسبة للسياسات العامة السعودية، وإن كانت محل جدل في التفاصيل الصغيرة. والمقدر أن الاستهلاك العالمي للنفط بعد تجاوز مرحلة «كورونا» بلغ نحو 100 مليون برميل يومياً؛ مستوى بلغه العالم آخر مرة في 2019.
الرياض، بحسب تعبير «بلومبرغ»، على المسار الصحيح، وأمامها أفضل سنواتها على الإطلاق، لكن ما لم يقله التقرير هو أن ذلك التحول مرتبط بسياسات حازمة على مستوى مكافحة الفساد، والحرب ضد الإرهاب والتطرف، والاستثمار في الإنسان السعودي، فالجديد في الرؤية السعودية أنها تجاوزت الفصل بين التنمية الاقتصادية ودوافعها الفكرية وقاعدتها السياسية والثقافية. ومع الرؤية، تم إطلاق عدد من المشاريع التنموية التي لم تنبتْ كطروحات مالية أو تحليلات اقتصادية مفرغة من سياقاتها الفكرية، بل تمتْ إضافة «المعنى» لها، في سابقة سعودية نشعر بملامح نتائجها في الداخل، قبل ملاحظات المنصفين من الخارج وتقاريرهم.
وفي التفاصيل، فإن الخطط التنموية السعودية السابقة كانت تعتمد على التمحور حول الاقتصاد وتسريع عجلته، مع البقاء في السياق التحديثي في إطاره المحافظ وحده الأدنى الذي لم يعد صالحاً للتكرار في ظل المعطيات الجديدة. أما اليوم، فالسعودية تستثمر في أجيال شابة، وطموحات كبيرة، واقتصاد أسواق عالمية مفتوحة. ومن هنا، تم دمج مجموعات كبيرة من الشباب والفتيات من المواطنين في سوق العمل قادمين من تجارب ابتعاث، مسلحين بأحدث ما وصلت إليه الجامعات العالمية من معارف وتطبيقات حديثة.
من مكافحة الفساد إلى مشاريع عملاقة إلى تمكين المرأة، ثم التحول الرقمي الهائل، وصولاً إلى إعادة تعريف للتنافسية في التعليم وسوق العمل، وليس آخراً تأسيس لقنوات حياة الرفاه والاهتمام بالثقافة والفن، والعودة بمجتمع السعودية إلى أسلوب حياة عصري متزن بهوية وطنية صلبة، هناك ما استوجب هذا الاعتراف اليوم من عقلاء العالم... اعتراف كهذا لم يأتِ من فراغ أو وليد لحظة ارتفاع في أسعار النفط، نحن نتحدث عن نتائج لمقدمة صلبة، حيث جذر «رؤية 2030» وعصبها الأساسي يتمحور حول نقل اقتصاد المملكة العربية السعودية الأكثر تأثيراً على المستوى الديني والثقافي والاقتصادي (من اقتصاد ريعي) إلى اقتصاد متنوع حيوي متجاوز للإدمان على النفط، مع تجديد لطرائق مقاربة ملفات الطاقة، ضمن صورة كلية أوسع، ببراعة وواقعية لا تستهين بالتحديات، وإنما تأخذها على محمل الجد، بروح طموحة ودماء شابة طموحها عنان السماء!