معروف أن «عروس البحر» مجرد خيال من صنع فولوكلور شعبي، ورد ذكرها في أساطير أقوام كثيرين، وتُعرف في قاموس الإنجليز باسم «MERMAID». ما بين ليل الثلاثاء، وفجر الأربعاء، من الأسبوع الماضي، كان القدر في انتظار «عروس بحر» من صميم واقع الحياة، فهي من دم في العروق، ومن لحم يكسو العظم، وما كانت ترجو الأقدارَ سوى أن تتيح لها اللحاق بعريسها المنتظر في بريطانيا، فركبت الأخطار، وسلمت نفسها لواحد من قوارب الاتجار بأرواح البشر، يداعب الأحاسيس منها أمل عبور القنال الإنجليزي - «بحر المانش» - ثم العيش بسلام وأمان مع زوجها. لكن هيهات، ذلك أن للأقدار حكمها المُقَدر من قبل. لقد حل موعد الأجل، وما كان بوسع أحد تأجيل أمر ليس من مفر منه، فالموت كأس الكل شاربه. صحيح تماماً، وحق، بلا جدال، إنما القول الحق يسطع أيضاً بنصح يرقى إلى درجة تحذير شديد الوضوح: «ولا تُلقوا بأيديكم في التهلكة». فهل من سبيل للعثور على أعذار لضحايا مأساة ذلك القارب، وفي مقدمهم العروس الكردية، الشابة مريم نوري محمد أمين، ذات الأربع وعشرين سنة، التي كانت أول ضحية يُذاع اسمها بين الضحايا المنكوبين؟
نعم، الأعذار يمكن إيجازها في عذر أساس يتمثل بحالة يأس يغرق في ظلماتها كثير من الناس إذا أضاع الواحد منهم بوصلة الإحساس بأي معنى للحياة. منطق الواقع اليومي يقول إن هذا يحصل دائماً، وليس حصراً بين أولئك الهاربين بعيداً عن جحيم أوضاع بلدانهم إلى شطآن أوروبا، متوهمين أن ما وراءها ليس سوى جِنان أمن وأمان، حدائق ورود وأزهار، وحقول سمن وعسل، كلا، أولئك ليسوا وحدهم ضحايا الغرق في لجج اليأس، فظلمات ضياع الأمل، وفقدان الإحساس ببريق ضوء في نهاية النفق، تتمكن أحياناً من خُناق أناسٍ في مختلف المجتمعات، تراهم ينتمون إلى كل الطبقات، منهم الغني ومنهم الفقير، يتساوون أمام ما يعصف بهم من مآسٍ، بصرف النظر عن اختلاف التقاليد والعادات، أو تعدد الرؤى وتباين منابع المناهج، فيطبق اليأس على الأنفاس حتى تختنق، أو أنها تكاد.
بيد أن اليأس المؤدي إلى مآسي قوارب الاتجار بأرواح البشر يظل ذا خصوصية تتعلق، أولاً، بما انتهت إليه أحوال بلدان أولئك الضحايا. كم هو مؤلم أن دولاً عربية، كما العراق، مثلاً، كانت إلى زمن غير بعيد، قبلة للساعين في مناكب الأرض طلباً للرزق الوفير، والعيش الكريم، ضيوفاً يرحب بهم أهل البلد الأصليون، بل ويتصاهرون معهم، فيصبحون جزءاً من نسيج المجتمع ككل. أنظر أعداد العراقيين في أيام جليد الصقيع القارس هذه، وقد تناثروا في خيام مهاجرين على الحدود بين أوكرانيا وروسيا البيضاء. ماذا عن سوريا؟ قد يعجب المرء، خصوصاً بين الأجيال الشابة، إذا قيل إن دمشق، وغيرها من المدن السورية، كانت حتى ستينات وخواتيم سبعينات القرن الماضي، تستضيف عرباً وافدين إليها من أقطار مجاورة، للعمل فيها. تأمل فيما حل بأكثر من عشرة ملايين سوري تشردوا داخل بلدهم وخارجها. بل حتى ليبيا، التي يحاول آلاف الأفارقة الهروب عبرها إلى أوروبا، فيستوطن بعضهم أجزاء من أرضها، خصوصاً في الجنوب، ليبيا ذاتها التي كانت مصدر دخل لملايين آلاف العاملين العرب، وغيرهم من دول عدة، صارت هي أيضاً في خواتيم زمن العقيد معمر القذافي، طاردة للكثير من الكفاءات بين أهلها أنفسهم.
صحيح أن ضحايا قوارب الاتجار بأرواح البشر، ليس بينهم ليبيون، إنما هذا لن يحجب حقيقة أن ليبيا تعاني كذلك بعضاً من جوانب المأساة، نظراً للحرب التي عاشتها طيلة عشر سنوات.
هل من حلول في الأفق؟ ليس واضحاً، حتى الآن. بل الواضح تماماً هو أن دول أوروبا تتخبط فيما بينها في كيفية التعامل مع تواصل مآسي الهاربين إليها، سواء من دول البحر الأبيض المتوسط، أو من أفريقيا. خذ بريطانيا وفرنسا، مثلاً، تراهما تواصلان لعبة إلقاء المسؤولية على بعضهما، ثم تعجب إذ ترى كلاً من رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، والرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، لا يترددان في تبادل اللوم علناً، لكنهما يسارعان إلى الزعم أن علاقات بلديهما قوية. نفاق سياسي؟ طبعاً، لأن الذي يعنيهما هو مصالح كل منهما، حتى لو أنها محض ذاتية. أما العروس الكردية الشابة، وغيرها من ضحايا قوارب اليأس، فليسوا في حسابات الساسة سوى مآس تستوجب إبداء الأسف.