تعبير (الاقتصاد الإبداعي) اخترق الأدبيات الاقتصادية، وصار متداولاً حتى في الأدبيات الصادرة عن مؤسسات محافظة، مثل الأمم المتحدة التي تبنته، وقننت المقاييس التي تضع اقتصادًا معينًا، أو سلعة معينة في منظومة الاقتصاد الإبداعي، وجاءت أول الاجتهادات الحديثة، الهادفة إلى تأصيل هذا المفهوم على يد الباحث البريطاني (جون هوكنز) الذي حاول أن يجمع لنا جميع هذه المكونات (الإبداع، والملكية الفكرية، والإدارة، ورأس المال، والثروة) ضمن إطار شامل نتج عنه هذا الدليل العملي الذي سماه (اقتصاد الإبداع) الصادر في العام 2001، الذي حصر 15 نشاطًا تشمل مجالات متنوعة، تبدأ بالفنون، وتمتد لتشمل مجالات العلم والتكنولوجيا وقدَّر حينها (هوكنز) حجم معاملات هذا الاقتصاد في مختلف أنحاء العالم بما يعادل 2.2 تريليون دولار.

ومن المحاولات الجادة لتأطير مفهوم وقيم هذا الاقتصاد، تلك التي قام بها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره الأول الصادر عام 2008 حول تقييم الاقتصاد الإبداعي على مستوى العالم، جاء فيه أن الاقتصاد الإبداعي هو ذلك النمط من النشاط الاقتصادي الذي يقوم على استغلال الأصول الإبداعية التي يمكن أن تولّد النمو الاقتصادي، وتقود إلى التنمية الاقتصادية، كما عرَّف الصناعات الإبداعية بأنها تلك السلع والخدمات التي تستخدم الإبداع ورأس المال الفكري كمدخلات أولية، والتي تشمل 4 مجموعات، هي: التراث، والفنون، ووسائل الإعلام، والإبداعات الوظيفية.

ولم يعد الاقتصاد الإبداعي، مفهومًا مجردًا يتداول في فصول الدراسة، بل تحول إلى أرقام ملموسة تحققها دول متقدمة، فقد أشار تقرير صادر في العام 2017 بشأن الاقتصاد الإبداعي في ألمانيا، إلى أن هذا القطاع يشكل واحدًا من قطاعات المستقبل الواعدة المتمتعة بإمكانات هائلة، وهو يبرز بقوة، خاصة في المدن الكبيرة، حيث تزداد مساهمة هذا القطاع في مجمل الأداء الاقتصادي الألماني، ويكاد اليوم يصل إلى ذات المستويات التي تحققها قطاعات صناعية رائدة، مثل قطاع بناء الآلات.

العرب لم يكونوا بعيدين عن هذا النمط من الاقتصاد، ففي تقرير صادر عن الأمم المتحدة في العام 2010 صنفت الأمم المتحدة دولة الإمارات ضمن أفضل 10 اقتصادات تقود التحول نحو الاقتصاد الإبداعي في الاقتصادات النامية، والملفت للنطر هو ذلك التقدم الذي حققته الصين على المستوى الدولي في هذا المضمار، فوفقًا لذلك التقرير فقد تفوقت الصين على كل دول العالم بفارق كبير في هذه التجارة القائمة على الإبداع، حيث استحوذت على 20,8 % من هذه السوق خلال الفترة من 2002 إلى 2008، بينما اقتصر نصيب الولايات المتحدة، التي أتت في المرتبة الثانية عالميا، على 8,6 % فقط.

الإنسان كائن إبداعي، ويستطيع أن يجعل من إبداعه موردًا ماليًا بالإضافة إلى كونه أداة لتحسين حياته باستمرار، ومن القواعد والنصائح التي يقدمها جون هوكنز في كتابه (اقتصاد الإبداع): طور نفسك، كن فريدًا، وحافظ على أفكارك قانونيًا، واستوعب مجال حقوق النشر وبراءات الاختراع، وقرر متى عليك أن تعمل بمفردك ومتى عليك أن تعمل في مجموعة، وتعلم إلى ما لا نهاية، اقتبس وأعد اختراع الأشياء واستخدامها، وتعلم متى يجب أن تتجاوز القواعد... لكن يبقى هذا الإنسان المبدع، لا يكف ولا يألو جهدًا في بحثه عن تلك البيئة، أو بالأحرى النظام الذي يستقبله، ويحول أفكاره من مجرد أحلام شخصية، إلى لبنة من لبنات اقتصاد الإبداع.