أَرِث عن جدّي الشيخ علي الزين ميلا طبيعياً إلى عدم تعريف نفسي كشيعي رغم أنه، أي جدّي، يُعتبر في نظر العديد من الدارسين اللبنانيين والأجانب على مدى جيلين أحد أبرز المساهمين في تظهير موقع جبل عامل في تاريخ لبنان وإن كان عُنيَ بتفنيد ودحض ما كان يعتبره أساطير ومبالغات في التاريخ العاملي والتاريخ اللبناني أكثر مما اهتم بوضع سردية أو رواية لهذين التاريخين.

كتب الشيخ علي مجموعةَ كتب تأْريخية (الهمزة على الألف بحيث تُلفظ الهمزة) مكرّسة تحت عناوين: "مع التاريخ العاملي"، "للبحث عن تاريخنا في لبنان"، "العادات والتقاليد في العهود الإقطاعية في جبل عامل". لم أنتبه سوى بعد وفاته عام 1984 أن أيّاً من عناوين هذه الكتب لم يحمل كلمة شيعة مع أن المواضيع التي دارت حولها أو حول معظمها هي عن جبل عامل وسكانه الشيعة الذين يأتي الشيخ علي نسباً وتاريخا وتكوينا منهم (درس في النجف ثماني سنوات وعاد مرغما بعد إصابته بعارض صحي فادح وبين يديه ويدي زوجته جدتي طفلٌ عمره سنتان وُلِد في العراق هو والدي الراحل الآن). كتاب واحد ووحيد له حمل كلمة "الشيعة" في عنوانه هو كتابه "فصول من تاريخ الشيعة في لبنان" لم يضعه جدّي وإنما أنا عندما سلّمني مخطوط الكتاب لأسلّمه إلى "دار الكلمة" ومديرها (الراحل) الصديق حسين حلاق. قمتُ بتعديل العنوان من "فصول من تاريخنا في لبنان" فأصبح "فصول من تاريخ الشيعة في لبنان" وكتب مقدمتَه باقتراح مني الصديق الدكتور أحمد بيضون الذي أتمنى له طول العمر. اعترض الشيخ علي يومها على التعديل بعدما فوجئ بتعديل العنوان عندما سلّمته النسخة الأولى من الكتاب رغم أنه كان مرحِّباً بصدور الكتاب وبمقدّمته وقد بلغ من العمر وتعب السنين ما كان يجعله غير قادر على الانتقال السهل إلى بيروت من مكان سكنه جبشيت في قضاء النبطية. غير أن اعتراضه تبدّد بتبدّد غضب الجد من "حماقة" حفيده وتسامحه السريع معها.

لم أفهم معنى اعتراضه إلا لاحقا بعد وفاته وقد أنضجني الزمن. كانت هذه العناوين التي لا وجود فيها لتسمية الشيعة في كتب معنيّة أساسا بتاريخ منطقة يسكنها الشيعة، نوعا من موقف عميق وبسيط ينم عن رغبة تواصل وانفتاح على الهويات الأخرى الطائفية وغير الطائفية باعتبارها تنتمي جميعا إلى تاريخ مشترك. وكان ذلك أيضا تعبيرا عن نزوع ذلك الجيل من "علماء جبل عامل" إلى الرغبة بالانفتاح على الآخر. فلم يتحوّل تأكيد الهوية كفعل ضد الآخر إلا مع جيل آخر جديد غير جيل جدّي الراحل.

هذه ال"نا"، تاريخ"نا"، كما ترد في عناوين كتبه، ليست تجهيلاً لتسمية بل هي احترامٌ واعٍ لتاريخ متعدّد كان الكاتب والمؤرخ يشعر أنه يختزن تعقيداً لا تختصره صفة واحدة. أين "العاملية" من "الشيعية" من "المتوالية" ( فذاك الجيل عُنِيَ دائما بمحاولة تفسير اسم "المتاولة" الذي كان يُطلق على الجماعة العاملية) ولن أقول الجنوبية وهي الصفة التي وُلدت بعد تأسيس الكيان اللبناني؟ هنا ال"نا"، حاضرنا أو تاريخنا، تعني ما هو قائم دون تحديد سوى في وعي ينزع إلى التخطّي لا إلى التقوقع، إلى الشرح لا إلى التعتيم، إلى الانفتاح لا الانغلاق دون أن "يقصّ" أو "يقتص" من هوية راسخة وأكيدة وطبيعية، لا بل من وجودٍ راسخٍ يتبنّاه الباحث وهو يتبنى نفسه وجماعته بلا تردد سوى ما يستلزمه "النقد العلمي" و"الحس السليم" كما رآهما من وجهة نظره التي حاول إقناع القارئ بها سواءٌ في مؤلفاته التأريخية التي ذكرتها أو في مؤلفاته في النقد الأدبي وليس مجالها في هذه العجالة أو حتى في بعض قصائده (لديه قصيدة تحت عنوان: أديب البيئة الخاملة)..

لقد تحوّل هذا الإرث عندي إلى نوع من الشعور الذاتي بالخجل بل بالعار أن أقدّم نفسي في الشأن العام على أنني (فقط) شيعي. وكذلك نظرت دائما إلى من يقدّم نفسه في الهوية السياسية ك"سنّي" أو "مسيحي" أو "درزي" (إلخ..).

أقول الهوية السياسية وأعني حصرا ما أقول فأنا من بيت ثقافي لعب دورا مع بيوت وشخصيات عديدة أخرى في بلورة الوجه الثقافي لجبل عامل على مدى مائتي عام وبأشكال مختلفة حفظاً للتراث أو تجديدا فيه وقد تحلّق جزءٌ كبير من دوره خلال خمسين عاما هي النصف الأول من القرن العشرين، كما تحلّقت أجيال وبيوت أخرى في جبل عامل، حول مجلة " العرفان" في مدينة صيدا وصاحبها ورئيس تحريرها الشيخ أحمد عارف الزين شقيق جدتي وخال والدي وصديق جدي وصديق والد جدي.

تقول مقالة نشرها موقع مجلة "فورين أفيرز" مؤخرا أن وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا "الفايس بوك"الذي، حسب المقالة، لديه العدد الأكبر من المشتركين في الهند قياسا بأي بلد في العالم، وهو 350 مليون مشترك، أن "الفايس بوك" ساهم في تعزيز الهوية الدينية في الهند وأن الصفحات التي اسّسها متعصبون هندوس ساهمت في تشجيع التنكيل بمسلمي الهند ( 170مليونا) بينما تَبيّن أن ظاهرةَ رئيس الوزراء الهندي الحالي نارندرا مودي الذي يقود الحزب المحافظ بهاراتيا جناتا (BJP) تَرافق نجاحُها مع انتشار الإنترنت.

إذن مالعمل و"التاريخ يتقدّم من ناحيته الخطأ" كما قال كارل ماركس؟! الظواهر الأكثر حداثة تساهم في نشر التعصب والهويات الدينية الأحادية؟

مع ذلك أشعر أن بوسعي أن أقول على طريقة شكسبير ولكنْ محرّفةً، أن "رائحة عفن" تنبعث من تاريخِ"نا" الراهن لا يمكن أن تستمر مع ازدهار الهويات الفئوية والمذهبية...

لقد خالفتُ جدي، جيل جدي، في نظرته إلى الكيان اللبناني وهو جيل مقاومة الانتداب الفرنسي وعرفتُ لاحقا أن هذا الكيان الذي هو صنيعة فرنسية مع نخبة مسيحية، يستحق الحياة والدفاع عنه لما يعنيه من تنوع ومخزون حداثي (أصبح الآن مهدداً) ولكني في الوقت نفسه سأظل من رأي الشيخ علي في النفور من أي تعريف للعمل السياسي على أساس مذهبي مهما بلغت الهوية الطائفية من جبروت وعتو وغطرسة.

من كل هذه المقدمة أصل إلى ما قد لا يتوقعه القارئ:

لا يريد السنّة والدروز والمسيحيون اللبنانيون محاربة إسرائيل عسكريا، بأغلبياتهم الساحقة الماحقة، يريدون مواجهة إسرائيل ودعم الشعب الفلسطيني ثقافيا وسياسيا وليس عسكرياً بما يعرّض وجودهم وحيوياتهم للخطر الشديد والعبثي. على الفئة الشيعية المتمسكة بسلاح حزب الله الإيراني أن تحترم هذه الإرادة الأكثرية اللبنانية التي تضم شيعة كثيرين نخباً وجمهوراً.

ولا يريد السنّة والدروز والمسيحيون اللبنانيون بأغلبياتهم الساحقة الماحقة، استخدام لبنان عسكريا ضد أي بلد عربي، على الفئة الشيعية المتمسكة بسلاح حزب الله الإيراني أن تحترم هذه الإرادة الأكثرية التي تضم شيعة كثيرين نخباً وجمهوراً.

عدا ذلك تزوير للحقيقة و لعب وتلاعب ب "تاريخنا في لبنان". أعني مستقبلنا.