دخل الرئيس الأميركي جو بايدن البيت الأبيض وهو على قناعة بأمرين، الأول أنه يجب الرجوع إلى الاتفاق النووي الذي وقعته إيران وست دول أخرى تمثل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ألمانيا.

والحديث عن "الرجوع" هنا سببه إلغاء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الاتفاق، وإعادته العقوبات على إيران. ويهدف بايدن من الرجوع إلى الاتفاق منع إيران من بناء قنبلة نووية. وسبب تغطية الموضوع في هذا المقال هو أن أي أمر يتعلق بإيران يؤثر في أسواق الطاقة، ليس لكونها مصدرة للنفط وعضواً أساسياً في "أوبك" فحسب، ولكن أيضاً لأنها تصدر الكهرباء والغاز والمنتجات النفطية مثل البنزين إلى دول مجاورة منها العراق. وهذه الأمور كلها مرتبطة بالعقوبات أو عدمها.

أما القناعة الثانية لدى بايدن، فهي أن الرجوع إلى الاتفاق سهل، وأن ما عليه هو مد يده إلى إيران. وهنا الخطأ الفادح الذي وقعت فيه إدارة بايدن. فمن الواضح الآن أن قراءة إدارة بايدن للأحداث خاطئة، وأنها ما زالت تفكر بالطريقة القديمة، على الرغم من أن الوضع تغير تماماً. وتغاضي بايدن عن أمور كثيرة لإرضاء إيران وإغرائها بالتفاوض من أكبر هذه الأخطاء، لأن النظام الإيراني فسـر ذلك على أنه نقطة ضعف. والواقع، إنه كذلك.

الموقف الإيراني

من وجهة نظر إيران، إذا كان أي رئيس أميركي يستطيع إنهاء الاتفاق ويعيد فرض العقوبات، فليس هناك داع للاستثمار في أي مباحثات، لأن ليس هناك ضمان للاستمرارية. ومن ثم، فإن إيران تريد اتفاقاً طويل المدى مع الولايات المتحدة الأميركية يوافق عليه الكونغرس الأميركي، ولا يمكن للرئيس وحده أن ينقضه. فهل يلبي بايدن هذا الطلب؟

ومن وجهة نظر إيران أيضاً، الوضع الحالي مثالي بالنسبة إليها، تستطيع تصدير كميات النفط التي تستطيع تسويقها من دون أي عقبات بسبب عدم تطبيق إدارة بايدن العقوبات التي فرضها ترمب. وتورد إيران المكثفات إلى فنزويلا عبر عملية تبادل مع الصين. وتحصل على استثناءات لتوريد الغاز والكهرباء والمنتجات النفطية للعراق. وتستطيع تصدير الغاز إلى دول مجاورة، بما في ذلك تركيا. في الوقت نفسه، تستمر في تخصيب اليورانيوم، وأصبحت قريبة من المستويات التي لا تريدها الدول الغربية ان تصل إليه.

ونظراً لقناعة إيران بأن الأزمة لن تنتهي، فإن استثماراتها في مجال النفط في السنوات الماضية جاءت "استراتيجية" وليست "اقتصادية". وذلك كي تتمكن من تسويق النفط حتى في ظل أعتى العقوبات الاقتصادية.

سياسياً، السيطرة الإيرانية على العراق وسوريا ولبنان واليمن تحجم أي جهود دولية لإجبار إيران على التراجع والامتثال.

ومن وجهة نظر إيران أيضاً أنها استطاعت إقناع الصين وروسيا والهند ودول الاتحاد الأوروبي بمظلوميتها، وتحصل على تأييدها. فلماذا توافق على شروط إدارة بايدن؟

كذلك، من وجهة نظر إيران، ماذا يستطيع بايدن أن يفعل إذا ما فشلت المباحثات؟ إيران تدرك أن خيارات بايدن محدودة، خصوصاً في ضوء المشكلات التي يمكن أن تسببها في البر والبحر في المنطقة، والأمثلة كثيرة.

الموقف الأميركي

لم يتغير الموقف الأميركي عما كان عليه في عهد الرئيس باراك أوباما، إيران ستكون في وضع اقتصادي ومالي أفضل إذا ما امتثلت وتم رفع العقوبات. فتستطيع بيع نفطها بحرية، وبأسعار أعلى، وستقوم الشركات الأجنبية بالاستثمار في إيران، فينتعش الاقتصاد الإيراني، وتنخفض معدلات التضخم والبطالة، وتتحسن قيمة الريال الإيراني. وستستفيد دول المنطقة من عدم تحول إيران إلى دولة نووية.

وتدرك الولايات المتحدة أن قدرتها على وقف صادرات النفط الإيرانية محدودة، لأسباب عدة أهمها، إتقان إيران طرق تهريب النفط، ودعم دول عدة هذه العمليات، سواء كانت الصين أو دول مجاورة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تستطيع عسكرياً وقف عمليات التهريب، إلا أنها تدرك أن المخاطر كبيرة، لأن النظام الإيراني، بشكل مباشر أو غير مباشر، سينتقم، تماماً كما حصل في السابق.

لهذا، فإنه يبدو أن هناك قناعة أن أفضل وسيلة للضغط على إيران هي تخفيض أسعار النفط، ولكن لايمكن أن يتم ذلك إلا بموافقة دول الخليج. ولكن دول الخليج لن توافق لسبب بسيط، هذا النوع من التفكير يعني أنها ستخسر في البداية، وستخسر في النهاية، فلماذا توافق؟

ما لم تدركه إدارة بايدن في المباحثات هو أن عليها التفريق بين النظام الحاكم في طهران، وإيران كدولة، وأن عليها النظر إلى مصالح الدول الأخرى مثل الصين والهند والدول المجاورة لإيران، لمعرفة سبب فشل العقوبات. فليس هناك أي مصلحة للمنتفعين من وجود العقوبات من إيرانيين وغيرهم، في التعاون للوصول إلى اتفاق. تجارة النفط الإيرانية مسيطر عليها من قبل فئة معنية ستخسر مجرد انتهاء العقوبات، وكذلك كل المتنفذين المنتفعين في الدول المجاورة.

أما الصين، فهي تحصل على نفط رخيص، ومن ثم الحل يكمن في ملء هذه الفجوة، إما بجعل العقوبات أعلى من المنفعة، أو بالتعويض. خيار العقوبات سيؤدي إلى توتر العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول. خيار التعويض غير مقبول لأسباب قانونية واستراتجية وأخلاقية، ولكنه ممكن. وهناك أدلة تاريخية على ذلك.

الحل في يد الصين... ولكن هذا يعني تقديم إدارة بايدن تنازلات... فهل يحصل ذلك؟ يبدو أن هناك شيئاً ما يلوح في الأفق، إذ إن وزارة الخارجية اجتمعت مع مندوبين في الكونغرس لإقناعهم بوقف مشروع قانون يقضي بفرض عقوبات على الصين لانتهاكها حقوق الإيغور المسلمين، وطالبوا بعض الشخصيات السياسية التي تنتقد الصين بشدة في وسائل الإعلام أن تخفف من حدة انتقاداتها.

إيران وأسواق النفط

على الرغم من العقوبات، إلا أن إيران تصدر كل النفط الذي يمكنها تصديره... ويتم ذلك بطرق مختلفة وبمساعدة دول عدة، ومن طريق شركات إيرانية تستخدم كغطاء لهذه العمليات موجودة في دول عدة تقوم بالحصول على إيرادات النفط.

ووجود المخزون العائم في إيران لا يعود إلى العقوبات، ولكن لعدم وجود طلب إضافي على المكثفات التي تنتجها إيران من الغاز الذي يستخدم داخلياً أو يصدر إلى دول أخرى. وكلما زاد إنتاج الغاز، زاد المخزون العائم للمكثفات.

وهنا، لا بد من التنويه بأن ما تنشره وسائل الإعلام عن صادرات إيران مبني على إشارات التتبع الإلكترونية للسفن التي تقوم بتشغيل هذه الأجهزة، ومن ثم تمثل جزءاً من الصادرات. ولا تشمل مايتم تصديره على أنه نفط دول أخرى، ولاتشمل النفط في السفن التي لاتشغل أجهزة التتبع ثم تقوم بنقل النفط إلى سفن أخرى في عرض البحر.

وتشديد بايدن العقوبات لن يؤثر كثيراً في كمية الصادرات الإيرانية، إلا إذا أقنع الدول المجاورة والصين بعدم التعاون أو الشراء. ومن ثم، فإن تشديد العقوبات لن يؤثر كثيراً في أسعار النفط، وإن كان سيرفع الأسعار المستقبلية قليلاً كرد فعل من المضاربين.

إذاً، انخفاض الصادارت الإيرانية مرهون بالمشترين، خصوصاً أن العقوبات لا تمنع إيران من التصدير، ولكنها تمنع المشتري من الدفع لإيران.

أي عمل عسكري في المنطقة من قبل الأميركيين أو الإسرائيليين سيؤثر مباشرة في أسعار النفط، وقد يرفعها بشكل كبير. وتزداد هذه الاحتمالية مع فشل المفاوضات واقتراب إيران من تخصيب اليورانيوم إلى مستويات تمكنها من إنتاج قنبلة نووية. المشكلة أن أي عمل انتقامي إيراني قد لا يكون ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل، ولكن ضد الدول المجاورة أو الملاحة في الخليج.

وقد تصرفت إدارة بايدن بتسرّع عندما أكدت مرات عديدة عن قلقها من ارتفاع أسعار النفط والبنزين، لأن ذلك أصبح ورقة رابحة في يد إيران!

أما إذا تم التوصل إلى اتفاق، فإن كمية الصادرات لن تتغير كثيراً في المدى القصير، وأي زيادة ستكون نتيجة بيع المكثفات في المخزون العائم بأسعار أقل من السوق. وهناك أدلة تاريخية على إمكانية حدوث ما يلي: إذا أدركت الحكومة الإيرانية أنه سيتم توقيع اتفاق، فإنها ستخفض صادراتها وتخزن كميات كبيرة من النفط التي سيتم الإفراج عنها تدريجاً بعد التوقيع على الاتفاق لإقناع الشعب الإيراني بأنها زادت الإنتاج أو الصادرات بسبب الاتفاق. لذلك، فهو اتفاق ناجح، ولإقناع المشككين بقدرة إيران حول العالم بأن إيران تستطيع زيادة الإنتاج. ولكن الواقع أن الزيادة في المدى القصير محدودة. الزيادة ستأتي خلال أشهر، وستبلغ أوجها بعد حوالى عام من توقيع الاتفاق. بعد ذلك، يعتمد الإنتاج على كمية الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط الإيراني، خصوصاً من قبل الفرنسيين.

خلاصة الأمر أن فشل المباحثات لن يؤدي إلى تغيرات هيكلية في أسواق النفط، إلا إذا وافقت الصين والدول المجاورة لإيران على عدم شراء النفط الإيراني أو التجارة به. وفي حال نجاح المفاوضات، فإن الأثر بسيط في المدى القصير، وسيظهر الأثر في المديين المتوسط والقصير. المشكلة أنه إذا ما إضطرت "أوبك" إلى تخفيض الإنتاج مستقبلاً لرفع الأسعار، فإن إيران ستكون حجر عثرة في وجه ذلك. لذلك، يمكن القول إن الخطر الأكبر من التوصل إلى اتفاق هو معارضة إيران أي تخفيض في المستقبل يهدف إلى إعادة الاستقرار إلى أسواق النفط. وبهذا، فإن الأثر الكبير للاتفاق النووي في أسواق النفط في فترة انخفاض الأسعار، وليس ارتفاعها.