"قد نشهد انهيارا اقتصاديا في بعض الدول إلا إذا تم تسريع إعادة هيكلة الدين"
كريستالينا جورجييفا، مديرة صندوق النقد الدولي
مع اقتراب العام الحالي من نهايته، وسط المتحور الجديد لفيروس كوفيد - 19، الذي اصطلح على تسميته "أوميكرون" بدأت المؤسسات الدولية الحديث بكثافة عن ديون الدول الفقيرة. وهذه الديون ليست حكرا على الدول المشار إليها، إلا أن أوضاعها الاقتصادية المتردية أو الجامدة تدخلها دائرة الخطر في العجز عن السداد. وهذا آخر ما يرجوه أي بلد. والمشكلة المستعصية حاليا تكمن في أن آفاق التعافي الاقتصادي على مستوى العالم لم تعد واضحة بما يكفي رغم أن النمو ساد المشهد الاقتصادي العالمي طوال العام الجاري تقريبا. ولا يزال ظاهرا بصورة متباينة في هذه المنطقة أو تلك. وهناك مخاوف من مغبة تأثير المتحور الجديد "أوميكرون" في التعافي، ومعدلات النمو في العام المقبل، ولا سيما إذا ما اضطر الأمر إلى إعادة بعض القيود على الحراك العام.
بانفجار جائحة كورونا أواخر عام 2019، أسرعت الدول الكبرى إلى النظر باهتمام لمسألة الديون المستحقة على الدول الفقيرة. فهذه الأخيرة أوقفت حراكها الاقتصادي كبقية الدول، وعاشت تحت ضغوط الانكماش الكبير والمخاوف من تراكم الديون السيادية عليها، والخشية من الوصول إلى مرحلة العجز عن السداد. ففي مطلع العام الجاري، تخلفت بالفعل ثماني دول عن السداد، بينما تتوقع مؤسسات دولية أن تكون هناك حالات مشابهة في العام المقبل، خصوصا إذا لم تتم السيطرة السريعة على الآثار التي قد يتركها المتحور الجديد على الساحة. ولذلك، فإن جهات عديدة بدأت تطرح ضرورة إعادة النظر بهذه الديون، والعمل السريع في هذا المجال قبل نهاية العام الحالي، كي لا يصل الأمر إلى المرحلة الحرجة تماما.
صندوق النقد الدولي صار يتحدث عن إمكانية حدوث انهيار اقتصادي في بعض الدول، إذا لم تتخذ دول مجموعة العشرين إجراءات عاجلة لتخفيف أعباء الديون. و"العشرين" أسرعت بالفعل مطلع العام الماضي وأخذت قرارا في قمتها برئاسة المملكة، بتعليق تسديد خدمة الدين للدول الفقيرة حتى نهاية 2020، ومع استمرار الأزمة التي أتت بها الجائحة العالمية، مددتها إلى نهاية العام الجاري. ويرى خبراء "النقد الدولي"، أنه قد يكون مفيدا مواصلة تعليق خدمة الديون، بينما يتم التفاوض على إعادة الهيكلة. والحق أن مجموعة العشرين تتحرك بقوة توازي أهمية هذه المسألة، وعرضت حتى إلغاء ديون الدول التي تتقدم بطلبات بهذا الشأن. إلا أن بعض الأطراف تحديدا الصين مترددة في تطبيق الآلية المطروحة، سواء بإعادة جدولة الديون أو إعفاء بعض الدول منها كاملة.
ربما يكون هناك بعض المبالغة في تحذيرات صندوق النقد الدولي، لكن الأرقام تشير إلى أن نحو 60 في المائة من الدول متدنية الدخل تتعرض لخطر مرتفع أو تعاني عبء مديونية كبير. في حين كانت هذه النسبة عام 2015 عند حدود 30 في المائة. الأمر الذي يؤكد أن الديون ارتفعت حتى قبل انفجار جائحة كورونا، وتعمقت أكثر خلال هذه الأخيرة، وضغطت بقوة على دول تعاني أصلا ضعف النمو فيها. ومما لا شك فيه أن مواصلة النشاط الاقتصادي في الدول الفقيرة ذات الديون المرتفعة، ستؤدي حتما إلى تخفيف أعباء الديون عنها، كما أنه يدعم تصنيفها الائتماني بما يعزز حراكها الاقتصادي عموما. ووفق البنك الدولي، فإن هناك غموضا كبيرا في الدول الأشد فقرا بلغ 121 في المائة من الناتج المحلي في الأسواق الناشئة.
وفي الفترة السابقة، كان أغلب التخفيض الائتماني السيادي يعود إلى الأسواق الناشئة، أو المبتدئة ذات التصنيف الأدنى. وهذه الأسواق تعاني نقاط ضعف سابقة لأزمة كورونا، بينما لا تتمتع بمرونة مالية عالية المستوى. وهنا تبرز مشكلة محورية أيضا، تتلخص بحسب معهد التمويل الدولي، في أن عجز الموازنات في الأسواق الناشئة كان مرتفعا في العام الماضي، وذلك لأن هذه الأسواق اتجهت لجمع الأموال لمواجهة الجائحة، ولا توجد مؤشرات تدل على إمكانية عودة معدلات الإنفاق إلى مستويات ما قبل الأزمة. يضاف إلى ذلك الضغوط الناجمة عن الديون السيادية التي تعاظمت بالطبع بسبب توقف النشاط الاقتصادي تماما في أغلب الأسواق المشار إليها. فالمشهد العام ليس لطيفا على الأقل في الوقت الراهن.
من هنا يمكن فهم التحركات الحالية من أجل إعادة جدولة ديون الدول الفقيرة، لأن أزمة الديون ستضيف هما آخر على الاقتصاد العالمي ككل. والمسألة أيضا ليست محصورة في إعادة الجدولة، بل هناك متطلبات لا بد للدول المدينة أن تقوم بها، وفي مقدمتها الإصلاحات المالية والهيكلية من أجل دعم أو بناء الاقتصاد الكلي، لماذا؟ لتحقيق النمو المستدام. فتخفيف أعباء الديون أو إعادة جدولتها أو حتى إلغاؤها، أمر يتطلب منهجا اقتصاديا محليا يستهدف في النهاية نموا يعزز المسار الاقتصادي بأكمله، مع الأخذ في الحسبان طبعا الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها الدول الفقيرة من تداعيات وباء عالمي لم تتوقعه جهة في هذا العالم.