الانطباع الذي يتركه بعض العلماء عن متحور أوميكرون هو أنه كائن عاقل، ويعرف مصلحته.

ليس كل الكائنات العاقلة تعرف مصلحتها، وليس كل الكائنات التي تعرف مصلحتها عاقلة. إلا أن هذا الفايروس يتحور من أجل أن يتعقلن ليؤكد للبشر أنهم حتى وإن لم يتعاملوا معه كصديق، فإنهم يخطئون عندما يتعاملون معه كعدو. على الأقل لأنه عدو ناصح.

صحيفة الغارديان البريطانية نقلت مؤخرا عن الدكتور جوليان تانغ أستاذ علوم الجهاز التنفسي في جامعة ليستر قوله “إن هذا المتحور هو الخطوة الأولى في عملية تكيف الفايروس مع البشر بحيث تكون الأعراض التي يسببها أقل حدّة. وهذا يعني أن من مصلحة الفايروس أن يؤثر على الأشخاص بطريقة لا تجعلهم مرضى، لأنهم عند ذلك يستطيعون التجول والاختلاط بالناس ونشر الفايروس بشكل أكبر”.

يبدو، بحسب هذا المعنى، أننا أسأنا فهم نيّات هذا الفايروس الطيّب. صحيح أن أصوله أصابت أكثر من 282 مليون إنسان، وقتلت أكثر من 5 ملايين منهم، إلا أنها لم تفعل ذلك عن قصد. وهي ظلت تتحور لكي تحافظ على مصلحتها في الانتشار، وهي تريد التكيف مع البشر لا قتلهم.

الخطأ في البشر. فهم بسعيهم لمكافحة الفايروس تعرضوا لأضرار وبذلوا جهودا للتطعيم ضده وأسرعوا في اتخاذ إجراءات لكبحه من دون أن يدركوا نواياه.

في النهاية، أثبت أوميكرون أنه أسرع منهم، وأنه قادر على إحباط أعمالهم المناوئة له، وأنه ليس عدوانيا إلى تلك الدرجة التي تجعلهم يخافون منه.

كورونا لم يكن أول وباء عابر للحدود، ولكنه قدم الدرس الأهم حول سبل التصرف بفاعلية عابرة للحدود. وهو نفسه الدرس الذي يحسن القبول به في كل الأزمات الأخرى.

أوميكرون يتحور لأجل أن يتكيف مع البشر. والسؤال العالق هو: متى يتكيف البشر مع الفايروس؟

المتغيرات التي فرضها تفشي الوباء سيئة في العديد من الأوجه، إلا أنها إيجابية في العديد من الأوجه الأخرى. ولا حاجة لإحصائها، فقد أحصيت على الوجهتين معا. ولكن ما بقي ناقصا هو أننا لم نتعلم السباحة بعد في عالم يزداد اضطرارا مع مرور الوقت. ولم نستوعب كل الدروس.

قدراتنا على التكيف مع المتغيرات الصحية والبيئية والاقتصادية ما تزال بطيئة بشدة. حتى لكأننا نبدو أقل كفاءة بكثير من أوميكرون.

الغالبية العظمى من البشر ما تزال تريد أن تعود إلى عالمها السابق. وسوف يكون من الأهون على بعضهم أن يُطلق عليك النار، من أن تحاول إقناعه بأن ذلك العالم قد رحل.

وضع الكمامات شيء مزعج حقا، ولكن عندما تظهر مخاطر أشد وقاحة من مخاطر ألفا وبيتا وغاما وأوميكرون، فإن رفعها سيكون هو الشيء المزعج حقا.

أحد أكثر الأسئلة جدة التي يطرحها الأميركيون الآن هو ما إذا كان بوسعهم أن يواصلوا بناء منازلهم بالوسائل والمواد التقليدية نفسها. إنهم يبحثون الآن عن سبيل لبناء منزل “مقاوم للعواصف”. فبعد أن رأوا ما حل في ولاية كنتاكي وولايات أخرى اجتاحتها الأعاصير، صار من الطبيعي أن يوجه المرء أسئلة كانت قبل أشهر تثير الاستغراب وربما الضحك.

وسائل التكيف لم تعد تقتصر على “العمل من المنزل” ولا على “إعادة تكييف المنزل ليصبح مكان عمل”، أو “إعادة تكييف العلاقات داخل المنزل لكي تتلاءم مع سلوكيات يفرضها واقع العمل فيه”. المنزل نفسه يجب أن يعاد تكييفه، ليبقى آمنا من “عواصف” الأوبئة والمتغيرات المناخية. الزوج والزوجة يتعين أن يكفا عن التصرف بهذه الصفة، لبضع ساعات على الأقل.

رأت زوجة أحدهم زوجها وهو يرتدي بدلة وربطة عنق. فسألته إلى أين؟ قال: عندي موعد في غرفة الصالون.

ما كان نكتة، أصبح هو “الطبيعي” الآن.

العيش في المدينة نفسه يتحول إلى وباء قاتل. غابة بنايات، مثل نيويورك أو لندن، لا يمكن السيطرة فيها على أوبئة مثل أوميكرون. علاقات المدينة، التي تعني حانات ومطاعم، لم تعد تتلاءم مع فكرة أن يكون أوميكرون هو المكنسة الوحيدة التي تدفع البشر إلى جحورهم.

فيضانات بعض المدن في ألمانيا وهولندا والنمسا قالت الشيء نفسه. حتى المجاري لم تعد تتسع لضغط الأمطار عليها. لم يكن ذلك منظورا قبل عقد من الزمن.

“اقتصاد المدينة” السابق لم يعد قابلا للحياة مع حزمة القيود والقواعد التي يفرضها هذا الوباء وما قد يليه.

أثبت أوميكرون أنه أسرع منهم، وأنه قادر على إحباط أعمالهم المناوئة له، وأنه ليس عدوانيا إلى تلك الدرجة التي تجعلهم يخافون منه

وإذا كنت تشعر بالحاجة إلى أن تحتضن صديقا أو صديقة، فلا بد أنك ستشعر بالحرج لأنك لم تحمل معك شهادة “بي.سي.آر” لطمأنته أو طمأنتها. السبب، هو أنك ما تزال تعيش في عالم الفقاعة الذي فرضه عليك أوميكرون العدو.

ماذا تفعل لأوميكرون الصديق؟ ما شكل العالم الذي يتعين أن تعيش فيه؟ ما شكل المنزل؟ ما شكل المدينة؟ وكيف نصيغ علاقات إنسانية جديدة؟ أين نذهب بما كان يفيض المشاعر؟ وماذا نفعل للدموع التي تتدفق في لقاء فرح أو حزن؟

ثم ماذا نفعل بكل هذه المدن المكتظة بالسكان والمصالح والعلاقات الاجتماعية التي لم تعد تتلاءم مع ما يحاول أوميكرون التكيف معه؟

الفايروس يحاول، ولكننا نحاول أقل منه. وضحايانا هم في الواقع ضحايا الفشل.

أنظمة الرعاية الصحية لم يتم تصميمها، في الأساس، لكي تستقبل موجات من البشر. لقد أقيمت على نظام مختلف. فردي إلى حد بعيد. هل صار من الواجب أن يكون لدينا نظامان؟ واحد للأوبئة، والآخر للأمراض التي نعرف؟

القطارات وحافلات النقل الجماعي، بما فيها الطائرات، لم يعد من الملائم أن يرتادها مواطنون يتكاسلون عن وضع كمامات واقية، أو يجعلونها تتدلى إلى ما تحت الأنف. ما الفائدة منها؟ ربما نكون بحاجة إلى ارتداء خوذ، تتكفل بتنقية الهواء ونقل الصوت. ولا تفكر بأن تعطي صديقتك قبلة.

لا أملك الجرأة على تقديم أي تصور لعالم تجتمع فيه الأوبئة مع المتغيرات المناخية. كما لا أملك تصورا حول السبل التي يمكن للبشر أن يتكيفوا مع ما يتم فرضه عليهم. ولست على يقين مما إذا كنت، بالمعنى الشخصي، قادرا على العيش في عالم كهذا، غريب إلى هذا الحد.

ولكني أعرف أن البشرية تتكيف في النهاية. الإنسان فعل ذلك على طول الخط. سوف يحتاج الأمر وقتا، ومنازل تقاوم الأعاصير، وأسواقا لا يزدحم فيها المتسوقون، ووسائط نقل جديدة، وأنماط علاقات أخرى، وخوذا تقي من تدفق المشاعر!

“التكيف” نفسه قد لا يوصل المعنى الكافي، لأنه ليس مجرد إجراءات تقنية ننفذها لكي نواصل العيش في عالمنا السابق. وهذا هو كل ما فعلناه حتى الآن، على أي حال. فمثلما تتغير أنماط العلاقات، فإن أنماط المصالح يجب أن تتغير أيضا.

في نمط جديد من أنماط المصالح، على سبيل المثال، فإن استقبال مليون لاجئ عصفت بهم الريح، لم يعد قضية سجال سياسي بين يمين متطرف وآخر أقل تطرفا. ما يصح قبوله داخل كل بلد، يصح قبوله في العلاقات الدولية أيضا. كانت تلك من بين أول رسائل العدو الناصح.

كورونا لم يكن أول وباء عابر للحدود، ولكنه قدم الدرس الأهم حول سبل التصرف بفاعلية عابرة للحدود. وهو نفسه الدرس الذي يحسن القبول به في كل الأزمات الأخرى.

أوميكرون، بقدرته على التكيف، أثبت أنه أعقل ويعرف مصلحته، أكثر بكثير مما نعرف عن أنفسنا نحن.