كثيرة هي الزوايا التي يمكن النظر منها الى انكفاء الرئيس سعد الحريري عن خوض الانتخابات النيابية، سواء فردياً أو حزبياً.

النظرة الى هذا الحدث السياسي اللبناني المرجّح، من زاوية وجدانية وأدبية وفلسفية، تروق لي، ليس لأنّ التخلّي، يبقى، بالنسبة لي، إحدى أهم وسائل "المستضعفين السلميين" للمقاومة فحسب، بل لأنّ التعاطي مع "اليأس"، بما يقتضيه من استسلام وتسليم، يُشكّل خلطة تترك سحرها فيّ، أيضاً.

لا أنكر أنّ سياسات الرئيس سعد الحريري لم تعد، وتحديداً منذ سنة 2014، تروق لي، لتصبح، بدءاً بعام 2016، دافعاً لمعارضتها، ولكنّ قرار انكفائه عن خوض الانتخابات النيابية، وتالياً عن عدم المشاركة الفعّالة، في ما يُسمّى بالسياسة السياسية، أي بالتفاصيل والمكاسب والصفقات والأحجام، أخذني، بعيداً من التحليل السياسي "البارد"، الى زاوية رومانسية جميلة سبق أن بيّن التاريخ أنّ لها دوراً كبيراً في صناعة التحوّلات الكبرى والثورات الناجحة والمحطات اللامعة واللحظات... الدامعة.

ليس مشهداً مألوفاً أبداً، في بلد يقف فيه الساعون الى المناصب في صفوف طويلة، حاملين أطباقاً فضية يضعون فيها "رؤوس" المبادئ المهدورة والأصدقاء المغدورة، أن ترى زعيماً "متوّجاً" يترك كلّ شيء ويهاجر إلى... الحياة الطبيعية.
"العاقلون" لديهم تفسيرات كثيرة لهذه الخطوة الحريرية، على قياس: القيادة السعودية الحالية تريده خارج الحلبة السياسية. قيادة الإمارات العربية المتحدة خيّرته بين أن يكون رجل أعمال فيها وبين أن يكون سياسياً لبنانياً. الرجل قد أفلس وليس لديه ما يخوض به الانتخابات النيابية، في وقت دخل فيه شقيقه الأكبر بهاء الذي لا يزال مليارديراً على الخط، لينافسه. الضعف الذي أصابه في شارعه يرعبه.
قد يكون كلّ ما يورده "العاقلون" من أسباب صحيحاً أو بعضه على الأقل، ولكن هذا لا يُلغي أنّ قواعد العمل الانتخابي في لبنان يمكنها، لو شاء سعد الحريري، أن تُخفّف من مفاعيل هذا السبب، هنا، وأن تُلغي مفاعيل ذاك السبب، هناك، فالحدّ الأدنى من الشعبية - وهي "خميرة انتخابية - متوافر، الأمر الذي يمكن تثميره في حملة تقوم على الشعارات الضخمة وعلى رمي مسؤولية الفشل على الآخرين، وعلى استثارة الغرائز الطائفية، وخلاف ذلك من "الأدوات" التي يعرفها الكثيرون ويعتمدونها، كما أنّ الحدّ الأدنى من العلاقات العربية والدولية المتوافر هو الآخر، قد لا يمكنه أن يقلب "النقمة" الى تأييد، ولكن يستطيع، بالتأكيد، أن يُلغي "الفيتو"، في حين أنّ الافتقار الى المال يمكن تعويضه بترشيح شخصيات ثرية تتولّى تمويل الحملة الانتخابية لزملائها غير المقتدرين.

ولكنّ سعد الحريري تجاوز كلّ ذلك، وأصرّ، على الرغم من إلحاح محازبيه، على أن يترك الزعامة ويهاجر الى "الحياة الطبيعية".

لماذا هذا "العناد"، وفق معطيات الزاوية الرومانسية؟
لا جواب حاسماً يمكن الزعم بامتلاكه، لأنّ تفسير قرارات "التخلّي" لا يمكن توفيره بالاعتماد على سبب واحد، أو باللجوء الى معايير "العلم الدقيق"، بل يقتضي تلمّسه، على قاعدة الطهو، حيث تختلط كلّ المكوّنات المتناسقة بعضها بالبعض الآخر.

ولإنجاح هذه "الطبخة"، لا بدّ من وضع المكوّنات بعضها مع البعض الآخر.
نبدأ من الأصل.

في الأساس، أحبّ الرئيس سعد الحريري الأدوار السياسية، لكنّ العمل السياسي اليومي، لم يستهوِه يوماً.

عارفوه اكتشفوا، بعد وقت قصير، أنّ الحريري لا تنطبق عليه مواصفات "الحيوان السياسي" التي تنطبق على كثيرين غيره، ليس في صفوف خصومه ومنافسيه فقط بل حتى في أقرب المحيطين به، أيضاً.

افتقاد الحريري لهذه المواصفات، دفعه الى "تجيير" الكثير من المهام الجوهرية إلى المعاونين والمقرّبين، واضعاً فيهم كلّ ثقته، حتى صحّ فيها مصطلح "الثقة العمياء".

بعض هؤلاء استفاد من هذه الوضعية، فحوّل نفسه الى "زعيم فرعي"، وراح يتصرّف باستقلالية "شبه مطلقة"، الأمر الذي سمح له، وهو يقدّم العناوين التي تعني الحريري، أن يفيد نفسه من أدق التفاصيل.

وليس سرّاً أنّ أشخاصاً في محيط الحريري أثروا فيما كان هو يفتقر، وعقدوا صداقات عميقة فيما هو كان يخاصم، ووضعوا خطوطاً حمراء منعته، عندما ارتأى، من الذهاب بعيداً.

وعندما أتى وقت الحساب، لم يجد الحريري من يحاسبه إلّا نفسه، فهؤلاء نتاج خياراته هو، ولم يصلوا الى حيث وصلوا ولم يوصلوه إلى حيث أوصلوه، لو أنّه أعطى قيمة للشكاوى التي كانت تصله حول أدائهم وأفعالهم و"شطحاتهم".
وتحميل الرئيس نفسه مسؤولية ما قام به مرؤوسوه ميزة ونقمة في آن. هي ميزة لأنّها تجعل الرئيس يواجه نفسه، ونقمة لأنّها تُصيبه بإحباط عميق.
"الحيوان السياسي" يقطع رأس هؤلاء. سعد الحريري ليس "حيواناً سياسياً".
هذا في الأصل، أمّا في الفروع فتبرز الأهداف التي حملها الحريري، عندما دخل، في ضوء اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، الى السياسة.
ويمكن توزيع الأهداف الى عنوانين عريضين: العدالة والمشروع.

على مستوى العدالة، وضع الحريري جهداً كبيراً في كشف حقيقة اغتيال والده ومحاكمة المتورّطين، وتحمّل من أجل ذلك الكثير، مقاوِماً الترغيب هنا ومواجِهاً الترهيب هناك.

ولكنّ النتيجة التي وصل إليها لم تكن مطلقاً على قدر الجريمة، فـ"المحكمة الخاصة بلبنان" التي دفع فريق الحريري كما القوى الحليفة له ثمناً غالياً من أجل إنشائها، انتهت الى تجريم شخص واحد من "حزب الله"، وهو سليم عيّاش، وبالصورة الغيابية، وسط عجز عن اعتقاله، في تعبير عن استسلام تام، محلّي ودولي، أمام إرادة "حزب الله".

استسلام فسّره الحريري، في ضوء تأويله لتجاربه السياسية، بأنّه "تواطؤ" مع "حزب الله"، من أجل إغلاق صفحة رفيق الحريري الى الأبد، بعدما فتحتها ظروف طواها الزمن ومتغيّراته.

وليس سرّاً أن سعد الحريري قد غيّر نظرته الى الداخل والخارج، بعد عمليتي اغتيال استهدفتا أقرب المقرّبين منه: اللواء وسام الحسن (خريف 2012) وبعده الوزير السابق محمّد شطح (شتاء 2013).

هاتان العمليتان أصابتا سعد الحريري بالعمق، خصوصاً بعدما اكتشف أنّهما ستكونان أقوى من المساءلة، وهما اللتان حصلتا فيما كانت "المحكمة الخاصة بلبنان" في قمة نشاطها.

ومنذ اغتيال محمّد شطح تغيّر سعد الحريري كثيراً، كأنّه، وسط مشاعر الفجيعة، قرّر أن يوقف، باعتماد نهج "التسويات"، هذا النزف المأساوي، فكانت البداية تراجعه عن شعار "لا حكومة مع حزب الله من دون تسليم المتهمين الى المحكمة الخاصة بلبنان" لمصلحة شعار "ربط النزاع" مع "حزب الله" والدخول معاً، بالتفاهم مع "التيار الوطني الحر"، في حكومة واحدة برئاسة تمّام سلام، ومن ثم الترشيح الأوّل الذي جرى إحباطه للعماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، قبل أن يرشّحه، ثانية، بعد الانقلاب الناجح على ترشيحه "المندفع" للوزير السابق سليمان فرنجية.

منذ عام 2014، لم يعد سعد الحريري يريد أن يرى دماء أحبائه وأصدقائه وحلفائه وضمناً دماءه هو، تُسفك في صراع بلا قواعد وبلا ضوابط وبلا مساءلة، فقرّر أن يذهب الى "السياسة التقليدية" في بلد يعاني معضلات "غير تقليدية"، مجتهداً في تفسير مشروع والده، على قاعدة أنّه مشروع "حياة مرفّهة للبنانيين".

وعليه، قال للبنانيين إنّه قرّر تسخير السياسة من أجل لقمة عيشهم، ومن أجل مكافحة البطالة في صفوفهم، ومن أجل استكمال عملية إعمار بلدهم.
وكانت النتيجة أنّ أكبر ثورة تحمل مطالب اجتماعية ومعيشية عرفها لبنان، اندلعت، وهو رئيس للحكومة.

وفوراً، فضّ الحريري شراكاته السلطوية، واستقال، خلافاً لإرادة هؤلاء الشركاء، من رئاسة الحكومة، من دون أن يتقدّم لرئاسة أخرى، بمعيتهم.
وحاول، في ضوء المبادرة الفرنسية، أن يعود الى السلطة، معتقداً أن الأدوات التي افتقدها، سابقاً، سوف توفّرها له هذه المبادرة، لكنّ ظنّه خاب، فالفرنسيون، كما وجدهم، يريدون منه أن يعيد شبك الشراكات التي فضّها، بعد اندلاع "ثورة 17 أكتوبر"، ولكن بطريقة مقنّعة تحمل اسم "اختصاصيين".
لم يجد الحريري لذلك تفسيرات كثيرة. حصرها في أنّ المجتمع الدولي، من البوابة الفرنسية، ارتضى بتسليم لبنان إلى إيران.

عندما وصل الحريري الى هذا الاستنتاج، كان قد خسر كلّ شيء: ثقته بالمجتمع الدولي، ثقته بمحيطه، ثقته بحلفائه والأخطر ثقته... بنفسه!
في ضوء كل ذلك، انصبّ تفكير الحريري على جدوى استمراره في العمل السياسي، فهو مدعو الى معركة لن تُنتج أهدافاً إيجابية، حتى لو انتصر فيها. سبق أن انتصر في معركتين انتخابيتين وحاز مع حلفائه الأكثرية النيابية، ولكنّ ذلك لم يجدِ نفعاً.

وفي هذه المعركة الانتخابية التي لا يأمل شيئاً من نتائجها، مهما كانت حصيلتها، سيكون في مواجهة شقيقه الأكبر بهاء الذي يحاربه، في الميدان وفي الإعلام - وهي مواجهة كريهة - وسيكون إلى جانب حلفاء لا يثق بهم ولا يثقون به - وهذا تحالف بشع - وسيكون بحاجة الى أثرياء يدعمون لوائحه - وهذه حاجة استتباعية - وسيكون "فقيراً" يتحمّل مسؤولية فساد الآخرين - وهذا واقع مؤذٍ - وسيكون شاهداً على دماء ممنوع التعويض عليها بشيء من العدالة - وهذه قمة المآسي.

رومانسياً، وبعيداً من التحليل السياسي الهادئ، يكتب الحريري الذي يعشق "الفن السابع"، بانكفائه، تراجيديا سياسية تصلح أن يحوّلها المتخصصون الى سيناريو لإنتاج ضخم.