الصِراع على القيادة الدولية هدف أصيل تسعى له المجتمعات المؤمنة بتفوقها الحضاري والثقافي على الآخر، وتعمل لأجله الأمم المتطلعة لفرض مبادئها وقيمها ومنهج عملها على غيرها من الأمم. نعم، هكذا هو تاريخ الأمم، وسيرة المجتمعات، وسلوك الدول، على مر التاريخ والأزمنة القديمة والحديثة والمعاصرة. نعم، تغيرت الأزمنة، وتبدلت التواريخ، وتزايد عدد المجتمعات، وتكاثر أتباع الأمم، إلا أن الهدف النهائي بقي واحداً لدى تلك المجتمعات المتطلعة للقيادة الدولية عبر السعي للمراتب الأولى عالمياً.

ولأجل تحقيق ذلك الهدف النهائي والوصول للغاية المبتغاة، جربت تلك المجتمعات جميع الوسائل المُتاحة، ومارست تلك الأمم كل الوسائل المتوفرة لديها، فتمكنت المجتمعات الأكثر تطويراً لوسائلها المتاحة من بلوغ أهدافها، وحققت الأمم الأكثر إبداعاً غاياتها النهائية. نعم، قد تكون رحلة الصراع على القيادة الدولية رحلة طويلة، وشاقة، ومكلفة، وتتطلب جهوداً وموارد عظيمة، إلا أن دروس التاريخ المتكررة، وقراءة تجارب الأمم المتوالية، تخبرنا بأن أقصر الطرق، وأقل التكاليف، وأجدى الأساليب، لتحقيق تلك الأهداف، وبلوغ تلك الغايات، يتمثل في زرع الفتنة بين أفراد الأمم المُستهدفة لتمزيقها من الداخل، ولتفتيت وحدة صفها، ولتقسيم وحدة كلمتها، لتتآكل من الداخل، وليتصارع أفرادها مع بعضهم البعض، حتى تصبح أمة مُنهارة من الداخل، وجاهزة للاستعمار من الخارج.

نعم، زرع الفتنة بين أفراد أية أمة، يُعجل بتدميرها من الداخل، ويتسبب باستسلامها للخارج. هذه المُعادلة السياسية التدميرية نجدها -للأسف- قائمة بين أفراد الأمة العربية التي يُراد لها أن تتفتت من الداخل، وأن ينقسم أبناؤها بين بعضهم البعض، ليتمكن المتآمرون من الخارج من التحكم بمصيرها السياسي والأمني والعسكري، وليستأثر المستعمرون بخيراتها ومقدراتها ومواردها العظيمة، وليضمن أعداؤها بقاءَها أمة عربية مُفككة، وضعيفة، وسهلة الانقياد. نعم، وبكل آسى وحزن، لقد أثرت الفتنة التي زُرعت وسُقيت وترعرعت -على مدى عقود متوالية، بين أبناء الأمة العربية- تأثيراً سلبياً عظيماً على وحدة الصفوف العربية، وعلى وحدة كلمتها الجامعة، وعلى تماسك المجتمعات العربية من الداخل ومع بعضها البعض.

نعم، لقد استنزفت الفتنة -التي زُرعت باحترافية عالية بين أبناء الأمة العربية وداخل مجتمعاتهم- الموارد والثروات الهائلة، والمقدرات القومية العظيمة، والأوقات الثمينة غير المُستردة، حتى تخلفوا درجات عديدة عن باقي الأمم، وتراجعت مكانتهم التاريخية العظيمة مستويات عديدة للخلف. إن الفتنة التي زُرعت باحترافية عالية بين أبناء الأمة العربية وداخل مجتمعاتهم نجدها ماثلة للعيان، وقائمة، وبيِّنة، وواضحة، في عدد من المناطق العربية التي يتواصل -يومياً وعلى مدى عقود- استنزاف قدراتها ومواردها وثرواتها وخيراتها العظيمة بشتى السُبل والوسائل والممارسات المتاحة وغير المشروعة. فبعد أن كانت الأمة العربية تبحث عن ذاتها وتسعى لتعزيز استقلالها ومكانتها الدولية بعد تمكنها من الاستقلال السياسي، سعى المتآمرون من الخارج لتعطيل هذه المساعي السياسية العظيمة، ولوقف عجلة التنمية الاقتصادية، من خلال استغلالهم واستخدامهم ضُعفاء النفوس من المُرتزقة والعُملاء والخونة من أبناء الأوطان العربية في الداخل والخارج. نعم، لقد كان هؤلاء المُرتزقة والعُملاء والخونة الأساس الرئيس الذي اعتمد عليه المتآمرون لتنفيذ مخططاتهم التدميرية الهادفة لتفتيت وحدة الصفوف العربية، وتقسيم وحدة كلمتها الجامعة، واستنزاف مواردها من الداخل.

ففي مصر خرجت علينا "جماعة الاخوان"، عام 1928م -غير معروفة الموارد المالية-، لتُنادي بأعلى صوت، ولتدعو بشتى الطرق، بتعطيل المشروع السياسي العظيم الذي سعى له زعماء مصر التاريخيون الهادف لتعزيز استقلالها السياسي، وتقوية وحدة مجتمعها على أسس وطنية وقومية جامعة، وهوية إسلامية حقيقية. لقد كانت "جماعة الإخوان" الأداة الرئيسية التي اعتمد عليها المُتآمرون من الخارج لتقسيم المُجتمع المصري، بدايةً، على أسس دينية - دينية، ودينية - قومية، ولتشعل بعد ذلك الفتنة السياسية والاجتماعية والثقافية داخل المجتمعات العربية الأخرى التي تمكنت من الوصول لها بفضل مساعدة الممولين والداعمين لها من الإقليمين والدوليين أعداء الأمة العربية.

وفي لبنان، زَرع داخلها المُتآمرون "حزب الله" ليكون الأداة التي تُشعل الفتنة السياسية بين أبناء لبنان، وليكون الوسيلة التي تُشعل الفتنة الطائفية والدينية والقومية بين مختلف الطوائف والعرقيات اللبنانية، وليصبح قادته وزعماؤه الأدوات الرئيسية التي تنفذ جدول أعمال الهدم والتخريب والاستنزاف داخل لبنان وفي المناطق العربية التي يتمكن من الوصول لها بفضل مساعدة الممولين والداعمين الإقليمين والدوليين أعداء الأمة العربية. وفي اليمن، زَرع داخلها المُتآمرون "جماعة الحوثي" لتكون الأداة التي تُفتت وحدة الصفوف اليمنية، ولتكون الوسيلة التي تُقسم المناطق اليمنية على أُسس قبلية وطائفية ومناطقية، ولتكون الأداة التي تستنزف موارد وخيرات ومقدرات الدولة اليمنية، ولتكون الوسيلة الطيعة لإشغال الدول العربية -وخاصة الخليجية- سياسياً، وأمنياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وليصبح قادتها أدوات طيعة تنفذ كل ما يأتيها من أوامر تأتيها من الممولين والداعمين الإقليمين والدوليين المُتآمرين على الأمة العربية. وفي سورية والعراق، زَرع المتآمرون العديد من المرتزقة والعملاء والخونة مثل "تنظيم داعش"، و"المليشيات الطائفية"، و"والأحزاب المذهبية"، بهدف بث الفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية لتدمير وتفتيت وتقسيم المجتمعين العربيين في سورية وفي العراق، ولتكون هذه المليشيات والأحزاب والتنظيمات والجماعات وسيلة لاستنزاف وإشغال الأمة العربية سياسياً، وأمنياً، واجتماعياً، واقتصادياً، ومادياً، وليكون قادتها وزعماؤها أداة التدمير الجاهزة لتنفيذ مخططات الممولين والداعمين الإقليمين والدوليين المُتآمرين على الأمة العربية.

وفي فلسطين -للأسف- تمكن المُتآمرون من أعداء الأمة العربية من استقطاب عدد من العناصر التي ارتضت لنفسها مهانة الارتزاق لأعداء أمتهم العربية، وتعهدت بكل خزي بأن تخون شعبها ووطنها وقضيتها لتخدم الأهداف التدميرية لأعداء الأمة العربية، وعملت بكل وضاعة لتقسيم وحدة الكلمة الفلسطينية والعربية، واستُخدمت بكل احترافية لتشويه صورة القيادات والجهود العربية أمام الرأي العام العالمي، ووُظِفت بكل إِذلال لتنفيذ كل هذه الغايات التخريبية بين أبناء الأمة العربية مقابل ضمان استمرار تمويلها المادي -المتواضع جداً- من أعداء الأمة العربية الإقليمين والدوليين. وبالإضافة إلى هؤلاء المُرتزقة والعُملاء والخونة، هُناك مُرتزقة وعُملاء وخونة عرب آخرون متواجدون في مناطق عربية أخرى، أو مُقيمون في الخارج، هدفهم الرئيس تنفيذ مخططات أعداء الأمة العربية المُتمثلة في تفتيت وحدة الصفوف العربية، وزَرع الفتنة الطائفية والعرقية والدينية والمذهبية والطبقية داخل المجتمعات العربية، وإشعال الفتنة السياسية والأمنية في جميع المناطق العربية لإضعافها من الداخل، وجعلها هدفاً سهلاً للمتآمرين من أعداء الأمة العربية.

وفي الختام من الأهمية القول بأن على أبناء الأمة العربية أن يُدركوا يقيناً بأن أعداء الأمة العربية لن يتوقفوا يوماً -كما لم يتوقفوا تاريخياً- عن وضع الاستراتيجيات ورسم المخططات الهادفة لإشعال وزرع الفتنة داخل المجتمعات العربية، وبين أفرادها، بأي وسيلة وضيعة تُمكنهم من تنفيذ مخططاتهم الهدامة وغاياتهم التخريبية التي وبكل حزن وأسف وأسى يعمل على تنفيذها ويساهم في تسويقها مُرتزقة وعُملاء وخونة عرب في الداخل والخارج ممن ارتضوا لأنفسهم ذُل الارتزاق، ومهانة العمالة، وخِزي الخِيانة. إنها حرب قائمة ومستمرة يعمل عليها الأعداء، وتتطلب من أبناء الأمة العربية الوعي والإدراك بأهدافها وغاياتها التدميرية.