تشكو روسيا من توسع حلف شمال الأطلسي «الناتو» شرقاً على مدى نحو عقدين. لم يبق حاجزُ يفصلُهُ عن حدودِ روسيا سوى أوكرانيا. وهذا هو مصدرُ الأزمةِ الأكثر التهاباً في العالم اليوم، بعد أن تصاعدت بسرعةٍ قياسيةٍ منذ أكتوبر الماضي. ولم تُفلح قمةٌ عن بُعد جمعت الرئيسين بوتين وبايدن، ثم محادثاتُ بين روسيا وكل من أميركا و«الناتو» على التوالي، في تخفيف حدة الأزمة التي يقتربُ طرفاها من حافة الهاوية.

ولهذا يزدادُ إلحاحُ السؤال عما إذا كانت الحسابات الموضوعية، التي تؤكدُ أن الجميع خاسرون في حالة بلوغ هذه الحافة، كافية لكبح مواجهة خطيرة؟ تاريخُ العلاقات الدولية يُوضحُ أن مثل هذه الحسابات يتطلبُ حداً أدنى من العقلانية يُمكنُ أن يُفقدَ في لحظةٍ ما نتيجة سوء تفسير أحد الطرفين خطوةً يُقدمُ عليها الآخر، وخاصةً في أجواءٍ تسودُها شكوكُ عميقة مُتبادلة.

وفي هذا التاريخ أيضاً ما يُمكنُنا من استنتاج أن احتمالَ تصاعد الصراعات يرتبطُ بحالة ميزان القوى، إذ يقل كلما كان هناك نوع من التوازن، والعكس. وليس سهلاً قياسُ ميزان القوى في الأزمة الأخطر في العالم الآن، لأنه يختلفُ وفقاً لمدى الدعم الذي سيُقدمُه «الناتو» فعلياً، وليس لفظياً، لأوكرانيا حال إقدام روسيا على عمل عسكري، وعلى نظرة صانع القرار الروسي للعقوبات التي تُهددُ واشنطن بفرضِها.

غير أن القدْرَ المتيقنَ هو أن روسيا تُواجه حلفاً ضخماً يضمُ 30 دولةً بعضُها ضمن الأقوى عسكرياً واقتصادياً في العالم. ولهذا فالسؤالُ الذي تأخر طرحُه، وربما حان وقتُه، هو هل يستطيعُ خصومُ الولايات المتحدة و«الناتو» الآن إنشاءَ تحالفٍ كبير يعتمدُ عليه أيُ منهم عند الحاجة؟ والسؤالُ بطبيعةِ الحال ليس عن حلف عسكري على نمط «الناتو»، وإنما عن تحالف يلتزمُ أعضاؤهُ بالدعم المتبادل، وليس بالدفاع الجماعي. فلا يجمع بين أهم خصوم أميركا و«الناتو»، وخاصةً روسيا والصين، أيٌ من مقومات الحلف العسكري، وفي مقدمتِها عقيدة قتالية ومنظومة قيمية وسلة أهداف مُشتركة.
كما أن تحقيقَ قدر ما من التوازن مع «الناتو» يتطلبُ اتفاقَ روسيا والصين على إنشاء تحالف تقودانه بالمشاركة بينهما. وليس سهلاً مثلُ هذا الاتفاق، رغم التقارب غير المسبوق الذي حدث بين الدولتين اللتين توصفان بأنهما عدوتان في وثائق الأمن القومي الأميركي.

وحتى إذا افترضنا أن ازدياد شعورِ كلٍ منهما بالخطر قد يدفعُهُما إلى اتفاق على بناء تحالف يضمُ الدول التي تشاركُهُما موقفِهُما تجاه واشنطن و«الناتو»، سيكونُ كلُ أعضائه المحتملين دولاً صغيرةً ومتوسطة، وفي مقدمتها حلفاء روسيا الخمسة في معاهدة الأمن الجماعي (بيلاروسيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا)، إلى جانب فنزويلا وكوبا. وقد لا تُحبذُ روسيا والصينُ ضم إيران إلى هذا التحالف المُفترض، لكي لا يتحمل تكلفة مشروعَيها النووي والإقليمي المرفوضين إقليمياً ودولياً.

ومع ذلك يمكنُ أن يكون إنشاءُ مثل هذا التحالف، إذا توفرت إرادتُه لدى الصين وروسيا، أو دُفعتا إليه تحتَ وطأة ازدياد شعورِهما بالخطر، خطوةً باتجاه توازن دولي ربما يُساعدُ في تصحيح مسار النظام العالمي الراهن المُرتبك والمُربك في آن معاً.


مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية