ثمة علاقة قوية بين تطور الشكل الحضري للمدينة والمخاطر التي قد تتعرض لها البنية العمرانية بما في ذلك الحرب، فقبل عقدين من الزمن تقريباً نشرت في هذه الصحيفة مقالاً عن "العمارة والحرب"، ذكرت فيه أنه يبدو من الظاهر أن الحرب ضد العمران، وأن آلة الحرب دائماً تقود إلى خراب العمران لا تطوره، على أن المتتبع لتطور العمارة عبر التاريخ سوف يصل إلى نتيجة مفادها أن العمارة الدفاعية والحربية كانت حاضرة عبر التاريخ، فمثلاً لم يستطع الرومان تطوير عمارتهم المنتشرة على رقعة واسعة من العالم القديم إلا لكونهم غزاة ينتمون إلى إمبراطورية إمبريالية توسعية، فتطورت عمارتهم نتيجة لمبادئهم العسكرية على مستوى تخطيط المدن وعلى المستوى التقني. وهناك إشارات واضحة أن العمارة الأيوبية التي تطورت دفاعياً في وقت كانت تواجه منطقة الشام هجمات صليبية. ومن الجدير بالذكر أن الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا والمرشح لها أن تتحول إلى حرب مدن في الأيام المقبلة تثير كثيراً من المخاوف على سلامة السكان، وهو أمر مناط بقدرة هذه المدينة التخطيطية على إتاحة خروج آمن للسكان عبر ممرات مدروسة وفي الوقت نفسه تأخير دخول المهاجم من الوصول لقلب المدينة. ولعل هذه المعادلة هي التي تجعل بعض المدن عصية السقوط وأخرى سهلة وفي مرمى العدو.

ما من شك أن تخطيط المدينة لا يخضع إلى التفكير في الكوارث والحروب على وجه الخصوص، لكن من الضرورة بمكان وضع خطة تصورية لإمكانية إخلاء سكان المدينة وربطهم بممرات ومعابر خصوصاً أولئك الذين يقعون في قلب المدينة. وفي الوقت نفسه تعزيز قدرة المدينة على صد أي هجوم من خلال خلق صعوبات أمام اقتحام المدينة، يبدو هنا أن هناك تناقضاً بين سهولة عبور السكان وبين صعوبة دخول العدو، في اعتقادي أن هذا التناقض ظل ملازماً لتطور المدن عبر التاريخ فقد ابتكرت تلك المدن وسائل الحماية لكنها لم تستطع تطوير وسائل التسلل خارج المدينة، خصوصاً إذا ما كان العدو يفرض حصاراً ويحيط بالمدينة، لذلك تظهر بعض الأساطير حول أنفاق تحت بعض المدن تشكل ممرات آمنة في حالة الهجوم عليها، وقد تكون بعض تلك الأساطير حقيقة.

من خلال متابعتي للأحداث الجارية في أوكرانيا، تبين لي أن عامل تأخير سقوط المدن عسكرياً يشكل فعالية كبيرة لبناء الروح المعنوية للجيش المدافع عنها ويحبط معنويات العدو، ورغم أن هذا العامل لا يُعطي أهمية كبيرة في علم تخطيط المدن المعاصر، لأن الأصل في التخطيط هو دفع التنمية وتطويرها، إلا أن عامل المخاطر الخارجية التي كان يشكل ذهن بناة المدن التاريخية يجب ألا يغفل. ولعل انفتاح المدن المعاصرة على المخاطر الخارجية من الجو والبر والبحر ألغى ثقافة توقع المخاطر التي كانت سائدة في السابق، ولم يستطع التخطيط العمراني المعاصر أن يوجد بدائل توازي المخاطر الجديدة التي قد واجهها المدن، ربما تكون أحد الدروس المهمة هو إعادة التفكير في بناء المدن على ضوء إمكانية نشوب الحروب والبحث عن تدبيرات تمكّن من المحافظة على سلامة سكان المدينة.

السؤال المهم هو: هل تبنى المدن من أجل التعامل مع الحرب؟ وهل كان بالإمكان أفضل مما تقدمه المدن الأوكرانية من مقاومة وتعنت في وجه القوات الروسية؟ وهل يمكن، في الأساس، تطوير مدن تقاوم آلة الحرب المعاصرة، ونحن نرى المدن تقصف بكل سهولة من الجو وتدكّها المدافع عن بعد؟ يبدو أن هذه الأسئلة كانت ضرورية في القرون السابقة وأصبحت لا تشكل هماً لدى المخططين في وقتنا الجاري. نشاهد المدن الضواحي، على سبيل المثال تحيط بالمدن الكبرى كظاهرة عمرانية سائدة، رغم أنها هدف سهل للهجوم، فهي أولى المناطق التي تسقط في أيدي العدو، ويبدو أن سنوات الأمن الطويلة بعد تفكك العالم القديم ونشأة منظمة الأمم المتحدة وتطور القوانين الدولية التي تلزم، إلى حد ما، الدول بعدم الاعتداء على بعضها، جعل من المدن المعاصرة لا تتوخى الحذر ولا تعمل من أجل حماية سكانها في حالة الحرب.

تؤكد الحرب الدائرة الآن أن المدينة تلعب دوراً محورياً في أي حرب، فحتى لو تطورت وسائل الهجوم، يجب أن تتطور المدينة كي تستطيع أن تدافع عن وجودها وعن سكانها، بالتأكيد إن تحقيق هذه المعادلات تخطيطياً قد يواجه صعوبات كبيرة، لكن التطور التقني يلعب دوراً مؤثراً لصالح المدن، ويبدو أن المستقبل يخبئ الكثير الذي قد يحول مفهوم المدينة كلياً، فالأزمات دائماً تعمل على تغيير الثقافات السائدة حتى في مجال التخطيط العمراني، لأن المحافظة على أرواح سكان المدينة تبقى أولوية في كل الأحوال.