ما حدث مؤخرًا في باكستان من تطورات سياسية انتهت بعزل رئيس وزرائها عمران خان قبل إكمال ولايته القانونية، لم يكن شيئًا غير مألوف في هذه البلاد التي شهدت منذ تأسيسها عام 1947 أربعة انقلابات عسكرية، وعاشت أكثر من 30 سنة في ظل حكم العسكر. ففي التاريخ السياسي للدولة الباكستانية حوادث ووقائع مشابهة ومتكررة وإنْ اختلفت طرق العزل ما بين انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية أو حكم قضائي أو تآمر حزبي. لكن الثابت في مختلف الأحوال هو أن أي زعيم باكستاني لن يطول به المقام في كرسي الحكم إلا إذا كانت مؤسسة الجيش راضية عنه، فهي التي تدير شؤون البلاد من خلف الكواليس سواء أكان رئيس الحكومة مدنيًا أو عسكريًا.

في حالة عمران خان، لا يحتاج المرء إلى كبير عناء لإثبات أن مؤسسة الجيش متهمة بالتدخل لتفويزه في انتخابات عام 2018 منعًا لعودة رئيس الوزراء السابق نواز شريف إلى السلطة، وهي التي عجلت في نهايته بالتصريح الذي أطلقه قائدها الجنرال قمر جاويد باجوا بقوله إن «العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة لا تزال على رأس اهتمامات باكستان»، وذلك ردًا على انتقادات عمران خان اللاذعة لواشنطن واتهامها بالتآمر لإسقاطه.

منذ لحظة إطلاق الجنرال باجوا لذلك التصريح بدا واضحًا أن علاقة رئيس الوزراء بمؤسسة الجيش سائرة نحو المزيد من التدهور الذي بدأت مؤشراته في أكتوبر 2021 حينما رفض الأول توقيع قرار تعيين الجنرال نديم أنجوم رئيسًا لجهاز الاستخبارات بحجة أن الجنرال باجوا لم يستشره، قبل أن يقوم الرجلان بتسوية خلافاتهما ظاهريًا.

لم يكن عمران خان بحاجة لإثارة جنرالات الجيش وهو العارف بمدى قوتهم وتأثيرهم في الحياة السياسية لبلاده، غير أن قلة خبرته السياسية وضعف تجربته الإدارية وطموحاته السلطوية اللامحدودة هيأت له أن بإمكانه التحليق بعيدًا دون محاذير، فمضى يدمر علاقات باكستان الإقليمية بالتخطيط مع ماليزيا وإيران وقطر وتركيا لعقد «مؤتمر الضرار» سنة 2019 لإبعاد المملكة العربية السعودية عن قيادة العالم الإسلامي، وراح يكثر من توجيه النقد لواشنطن والاعتراض على سياساتها حيال العديد من القضايا ضاربا بعرض الحائط حقيقة أن واشنطن تمثل موردًا رئيسيًا لأسلحة جيشه، ناهيك عن أنها منحت إسلام آباد وضع «حليف استراتيجي من خارج الناتو»، فحصلت بموجب هذا الوضع الخاص على مجموعة متنوعة من المزايا العسكرية والمالية التي لا يمكن أن تحصل عليها الدول الأخرى غير الأعضاء في الحلف.

وفي المقابل لم يكن الجيش بحاجة إلى انقلاب عسكري للإطاحة به لأن شعبيته التي ظل يتفاخر بها طويلاً كانت قد وصلت إلى الحضيض بسبب سوء إدارته لأوضاع البلاد الاقتصادية، ما تسبب في تراكم الديون وتسارع التضخم وتدهور قيمة العملة المحلية (الروبية) وركود النمو على مدى السنوات الثلاث الماضية ووصول البلاد إلى حافة الانهيار والإفلاس. هذا ناهيك عن فشله في الوفاء بوعوده للجماهير حول القضاء على الفساد المتجذر والمحسوبية وتوفير الأمن والاستقرار وإيجاد حلول واقعية للعنف المستشري في بعض مناطق البلاد والتي تغذيها المطالب الانفصالية (كما في بلوشستان) أو النزعات الطائفية والقبلية (كما في إقليم خيبر بختونخوا).

ولعل ما زاد الطين بلة هو إقدامه على خطوة شعبوية تمثلت في تراجعه عن خطة الإصلاح الاقتصادي التي وقعها عام 2019 مع صندوق النقد الدولي بقيمة ستة مليارات دولار والتي اشتملت على تعهدات بخفض دعم أسعار سلع معينة وتحسين الإيرادات والعمل بصورة منهجية لتحصيل الضرائب والقضاء على ظاهرة التهرب الضريبي المتفشية، مفضلاً بذلك مستقبله السياسي على مستقبل البلاد والأمة.

جملة القول إن عمران خان المبتدئ في السياسة لم يحسب خطواته جيدًا وهو يقتحم عالم السياسة الباكستانية الوعر والمليء بالأشواك والألغام، بل لم يستفد من دروس ما حل بأسلافه فكابر كثيرًا، إلى درجة أن الكثيرين من المحسوبين عليه من أعضاء حزبه تمردوا عليه في أول فرصة (انشق عشرة من نوابه عليه وانضم سبعة نواب من حلفائه إلى صفوف المعارضة). ومن هنا فإن الجيش تجنب هذه المرة الانقلاب على زعيم منتخب، وترك أمر عزله للبرلمان الذي حجب الثقة عنه في جلسة عاصفة دامت 14 ساعة تخللتها تبادل الاتهامات والاستقالات، فصار عمران خان بذلك أول زعيم باكستاني يعزل من منصبه عبر حجب الثقة عنه بطلب من أحزاب المعارضة ودعم مطلق من المحكمة العليا.

أما ادعاءات عمران خان بأن واشنطن والغرب تآمروا عليه بقوله: «لأنني عارضت الحرب على أفغانستان وعلى العراق ورفضت تسليم القدس للصهاينة وتعاونت مع الصين»، فلم تكن سوى محاولة يائسة منه لتسول الشعبية والتأييد عبر دغدغة مشاعر شعبه المسلم المعروف بسهولة انقياده نحو الشعارات المضادة للغرب عمومًا.

وبخروجه من السلطة واختيار البرلمان الباكستاني محمد شهباز شريف (زعيم حزب الرابطة الإسلامية ورئيس وزراء ولاية البنجاب السابق، أهم الولايات الباكستانية، والشقيق الأصغر لرئيس الحكومة السابق نواز شريف الذي سقطت حكومته الثالثة بسبب مزاعم الفساد) بدلاً منه في الحادي عشر من أبريل الجاري تبدأ باكستان حقبة سياسية جديدة لكنها صعبة وحافلة بالمفاجآت والصراعات. وليس من المستبعد أن يبدأ شريف عهده بالانتقام من سلفه عبر فتح ملفات الأخير والتحقيق معه في مزاعمه حول التآمر الخارجي ضده، بل واتهامه بتخريب التقاليد البرلمانية والمتطلبات الدستورية على نحو ما جرت العادة في باكستان بين الخلف والسلف منذ عهد ذوالفقار علي بوتو.