استمتعت بقراءة مقال عبدالله السيد الهاشمي في «الاتحاد» الموقرة يوم أمس بعنوان (سر الولايات المتحدة الأعظم). وأعتقد أن ما ذهب إليه الكاتب صحيح إلى حد كبير في أن الولايات المتحدة سرها في قوة «البحث العلمي» والمعرفة، لكنه ليس انفراداً تحتكره، فألمانيا واليابان وكثير من الدول المتقدمة تنافس في هذا المجال. ولدي رؤية شخصية مختلفة في أحد أهم أسرار قوة العالم الجديد الذي نسميه الولايات المتحدة، ألخصها فيما يلي: برأيي أنه ومنذ اللحظة التي رست فيها سفينة سانتا ماريا وعلى متنها المؤمن حد التعصب الديني كولومبوس أمام ذلك العالم الجديد (متوهماً أنه الهند)، وكان قرار الإقصاء العرقي والديني متوفراً في النوايا بلا مواربة.

كان لا بد - فيما بعد مرحلة المستوطنات- من حيلة «جماعية» لطي صفحة فكرة السكان الأصليين والذين أبيدوا بفترات زمنية قصيرة، ولترسيخ فكرة «جغرافيا جديدة غير مأهولة» كان من الضروري أن يبدأ التاريخ لتلك الجغرافيا من تلك اللحظة، مع توليد التاريخ تكراراً، بمعنى ألا يكون للتاريخ في الذهنية الجماعية أي أهمية، ومن هنا نشأت الفلسفة النفعية التي تأسست عليها فكرة الولايات المتحدة، فالفرد هو الأهم، والتاريخ دوماً يبدأ الآن في جغرافيا شاسعة ووفيرة بالموارد.

وتراكمت الفكرة واختمرت حتى وصلت إلى الآباء المؤسسين كوثيقة استقلال، تصبح فيها القاعدة أن هناك كثيراً من الجغرافيا، وقليلاً جداً من التاريخ.

وهذا وصف دقيق للولايات المتحدة اجترحه الأستاذ محمد حسنين هيكل مطلع الألفية. تلك مقدمة مهمة، للوصول إلى تلك القاعدة التي تحرك العقل الجمعي في الولايات التي اتحدت وتحاربت ثم توحدت من جديد على مفاهيم متشظية: كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ. تلك وصفة كافية لإعادة صياغة الواقع بأكثر من شكل ممكن، دون المساس بالجوهر الأساسي: عالم جديد غير مأهول اكتشفه الرجل الأبيض وهو المسيطر عليه. تلك القاعدة كانت نقطة القوة في الصعود الأميركي، فالتاريخ حين يبدأ الآن دوماً، يعني أنك لا تحمل تراكماته على ظهرك، ولا يثقل عليك. وتلك ميزة فريدة تجعل القارة «الجديدة وغير المأهولة سابقاً» خفيفة ورشيقة وشابة ومبدعة وكانت أميركا فعلاً كذلك حتى صارت حلماً للعيش فيها. ومبدعة، وكانت أميركا فعلاً كذلك حتى صارت حلماً للعيش فيها. وهي أيضاً ذات القاعدة التي تشكل نقطة ضعف أميركا أيضاً في العلاقة مع باقي العالم (العالم القديم، ذلك العالم الذي يثقله التاريخ كثيراً، فصار عجوزاً إلى درجة أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد لم يناقض «شخصيته الأميركية» حين وصف أوروبا ذات خلاف بالقارة العجوز.

ومن هنا أيضاً، ففي اللغة الإنجليزية بنسختها الأميركية، تصبح مفردة تاريخ «HISTORY» رديفاً للعدم، فيقول الأميركي حين يهدد أحدهم بالقتل أو«إقصائه» إلى الأبد: أنت تاريخ بالنسبة لي - you are History.

ويصبح بعدها كل تعاقب الأحداث في سيرة حياة العالم الجديد مجرد تعاقب أحداث، لا وجود فيه لتعاقب أيديولوجي أو فكري مثقل بالتراكمات الفلسفية والتاريخية. تلك قوة أميركا الأساسية.. وربما هي نقطة ضعفها في الوقت ذاته.