عرضت منغوليا في إكسبو 2020 دبي مِن طبيعتها ومراعيها وخيولها، لكنني تسمرتُ عند صورة جنكيزخان، الذي بظهوره (1203–1227م) ألغى مَن تقدم ومَن تأخر مِن أبطال المغول. كذلك وقفت عند الرِّسالة التي بعثها خان المغول(1289 ميلادية) إلى ملكٍ أوروبيّ، وفي تلك السَّنة كانوا يحكمون بغداد والشَّرق كافة، بعد إسقاط الخلافة(1258م)، واستمروا يحكمونها لقرنين، إليخانيين وجلائريين.

كان جنكيزخان مؤسساً لإمبراطوريَّة كبرى، اخترقت جيوشه الآفاق على ظهور الخيل، والمقاتل كان يكتفي بمص دَمِ فرسه، فمثل هؤلاء لا ينكسرون. لكنْ كيف نست منغوليا بطلها الذي أسقط بغداد وأخضع الممالك كافة بين عاصمتها قراقورم وبغداد؟! فلم تذكره في معرضها بشيء، مع أنَّ شهرته فاقت شهرة جده جنكيزخان، الذي شاعت حوله الخرافات، فقيل إنَّ أمَّه حملت به مِن شعاع الشَّمس، وعندما مات جعلوه في تابوت مِن حديد وربطوه بسلاسل عُلقت بين جبلين(ابن كثير، البداية والنِّهاية). عرضت صورة جنكيزخان في جناح منغوليا راكباً فرسه شاهراً سيفه، فهو الفاتح الملقب بـ«ملك العالم»، وحفيده هولاكو «مالك رقاب الأُمم».

أصبحت منغوليا جمهوريَّة اشتراكيَّة(1924)، وهي الأولى من خارج الاتحاد السُّوفيتي، وظلت اشتراكيَّة حتَّى انهيار الأخير(1992)، فتبدلت إلى ليبراليَّة، لكنها ظلت كما كانت رعويَّة، وعلى الرُّغم مِن العقود الطَّويلة في ضخ الدِّعاية الأُمميَّة الاشتراكية والسَّلام بين الشُّعوب، عادت إلى جنكيزخان المُرعب. أمَّا هولاكو، الذي أمره أخوه(منكوخان) باجتياح قلاع «النّزاريين»، فخرج عن حُكم أخيه، بعد إسقاط الممالك مملكة تلو الأخرى حتَّى وصل بغداد، فحينها شعر بجبروته، وأصبح له مُلكٌ مستقلٌ، ولأولاده وأحفاده خارج منغوليا(الهمداني، تاريخ المغول الإيلخانيين، تاريخ هولاكو).


أصدر جنكيزخان دستوراً، عُرف بـ«الياسة» أو «السِّياسة الكبيرة»(ابن خلدون، العبر)، فحسب وزير هولاكو ببغداد علاء الدِّين الجُويني(ت: 675هج)، الذي أطلع على صفحات منه، والعقوبات التي احتواها ليس بينها أقل مِن القتل، مهما صغر الذَّنَب أو كبر(البداية والنهاية). كان جنكيزخان يَعدُ لاجتياح البلدان ليصل بغداد، متخذاً سمرقند قاعدةً، فوصلت عساكره أربيل والموصل، لكنْ، على ما يبدو أنَّ وفاته(1227 م) أجلت المشروع، إلى أنْ تولى حفيده منكوخان، وأرسل أخاه هولاكوخان فأنجز المهمة.

يصف ابن الأثير(ت: 630هج)، المعاصر للحدث، الرّعب الذي أصاب البلدان المجتاحة: «لقد جرى هؤلاء التَّتر ما لم يُسمع بمثله، مِن قديم الزَّمان وحديثه، طائفة تخرج مِن حدود الصِّين، لا تنقضي عليهم سَنة... ويجاوزون العِراق مِن ناحية همذان، وتالله لا أشك أنَّ مَن يجيء بعدنا، إذا بَعدَ العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة(مدونة) ينكرها»!(الكامل في التَّاريخ)، وصل الرّعب أن يأتي المغولي بلا سلاح ويربط العشرات بخيوط، ولا أحد يرده(المصدر نفسه).

لا يا ابنَ الأثير، لقد حصل ما هو أفظع، وبوسائل غير وسائل جنكيزخان، طائرات شبح تطير آلاف الأميال لتحطم جسراً أو تدمر محطات الماء والكهرباء، ودبابة تصعد على سيارة، فيختلط حديدها بلحم ودماء أصحابها ببغداد.

يختلف النَّظر للقادة مِن شعبٍ إلى آخر، فالعادل عندنا، يكون جائراً لدى مَن وقع عليهم السَّبي والاجتياح باسم الفتح أو التَّحرير، هكذا تكون الحقائق نسبية، فجنكيزخان عند المغول رمزٌ أسطوريّ، بينما نراه نحن أحد الطُّغاة الظَّلمة. أقول: إذا نُظر بهذا المنظار سيقبل النَّاس بعضهم بعضاً، فحسب ما نُسب لملك الحِيرة عمرو بن امرئ القيس(328-363م): «نحنُ بما عندنا وأنت بما عن/دك راضٍ والرَّأيُ مختلفُ»(الجاحظ، البيان والتَّبيين).