أكثر ما يسكن الذاكرة قسوة هي حالة الفزع التي صاحبت ما أصطُلح عليه سياسياً بـ«الربيع العربي»، والكيفية التي سعت بها القوى السياسية المُتأسلمة من «الإخوان» و«السلف الجهادي» حينها إلى تعظيم مكانتها السياسية اجتماعياً على حساب القيادة الوطنية، والمنهجية السيكولوجية التي اعتمدها في تعظيم هوية مشروعها السياسي على حساب كل الثوابت الوطنية، وهنا أنا لا أتحدث عن البحرين فقط إنما في عموم المنطقة. ورغم حجم مصدر التهديد الوجودي لكل ما يمثل هويتنا الوطنية من أرض وإرث تاريخي واجتماعي، إلا أن ما لم يفهمه القائمون على ذلك المشروع هو قدرة إنسان هذه الأرض على استنهاض الإرادة والدفاع عن كل ثوابته الوطنية.

ما قدمته القوى المُتأسلمة شيعيةً وسنيةً تماثل من حيث النموذج والأهداف، ورهانها «سيكولوجيا» تمركز على عبثية التمسك بجغرافيا سياسية اعتبرتها طارئة مثلت أوطاننا. ذلك ما استكان عقيدة منذ تآلفت تلك القوى وتناسخت حمضها النووي، لأدركها قابلية تكييف الهويات الفرعية سياسياً نتيجة هشاشة الجغرافيا السياسية حينها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. حصانة جغرافيتنا السياسية ستمتحن من جديد في قابل الأيام وبأشكال لن تماثل ما عهدناه منذ 1979 وصولاً إلى 2014 (الإخضاع الاقتصادي بعد فشل الربيع العربي)، فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية عام 2007 حصافة رأس المال السيادي الخليجي وما تلاها من رؤى تحولية كبرى اقتصادياً واجتماعياً منذ 2011، وما أنتجته تلك الرؤى من تعاظم لمكانة النماذج وحجم تأثيرها.

ويجب إدراك أن استدامة «تطور النماذج» يمثل درع تحصينها الأول، وأن تعزيز مكانة الهوية الوطنية يستلزم توطين الانتماء قبل الولاء. هذه الجغرافيا السياسية لم تكن طارئة يوماً، وليست مضارب عربان أو محطة وقود وبترودولار، بل هوية متجذرة في وجدان هذه الأرض، ونماذج صناعة التاريخ السياسي لم تتوقف منذ توحيد الجزيرة العربية إلى ولادة الإمارات العربية المتحدة. ومن من افترض أن الخيام تسكن عقولنا قد فاته تقاطر من تَقاطر على الرياض ممن أنكر قبلها استحقاقات صناعة التاريخ للتكسب من هبائه.

لسنا مضارب خيام ودول طارئة كما سوّق ويسوّقُ قادة القوى المُتأسلمة، وعلينا أن لا نقبل بالخلط بين هويتنا الوطنية وهويتنا الإسلامية، فالعقيدة الروحية لا تقوم مقام الهوية الوطنية سياسياً أو اجتماعياً لأنها عماد الأوطان. وعلينا استحضار استحقاقات الغد لا الوجل عند تحد إرادتنا مستقبلاً. كل عام وأنتم بألف خير وعساكم من عواده.