الحديث عن الأصولية هو بالضرورة تناول للتاريخ، بما يحمله من تطوّر للمجتمعات، ومن تغيّر في الأفكار. مرّ قرن على تأسيس حركة «الإخوان المسلمين»، وقد شيدت الجماعة أبنية مفهومية كبرى أسرت المجتمعات وقيّدت العديد من الدول. وأخطر ما أسسته الجماعات المتطرفة هو البناء المعرفي. ولم يعد بناؤهم مقتصراً على إرث المودودي وسيد قطب، ولا على التنظير الفكري الممتد منذ السبعينات حتى أوائل الألفية، بل جذّرت الأصولية من عدّتها المفهومية لتشمل التأسيس والتأصيل والدخول في تخوم المعارف والعلوم، ولكن كيف يتم ذلك؟!

لفتَ نظري تخصيص مركز «المسبار للدراسات والبحوث» في دبي كتاباً كاملاً بعنوان «مصادر الإسلامويين جذور الصناعة الحركية» - يوليو (تموز) 2021، وبتصدير الكتاب شرحت هيئة التحرير، أن هذا الكتاب «يستند إلى تشخيص مرجعيات العقل الإرهابي عموماً والحركي خصوصاً؛ إذ نبه (التشخيص) إلى أهمية تقصّي جذور الحركية الإسلاموية، في سبيل تفكيك التباس الفصل المزعوم بين (الدعوي والسياسي)، وتقديم قراءة أعمق للطبقات (المعرفية أو التنظيمية)، واختبار المصادر التي تتأسس عليها الآيديولوجيا المتطرفة والتنظيم المرن». يلاحظ الكتاب تولّع المنظرين المؤثرين للحركية، «بإعادة تفسير القرآن تفسيراً حركياً يتسق مع احتياجاتهم التنظيمية، وانفعالاتهم السلوكية، لا سيما مَن تأثر بسيد قطب (1906 - 1966) وأبي الأعلى المودودي (1903 - 1979)». وسأعرض لبعض مضامين دراسات الكتاب في هذه المقالة.

تناول عبد الباسط سلامة هيكل، باحث وأكاديمي مصري، وأستاذ علوم العربية وآدابها، في دراسته بالكتاب مفاهيم مثل الجاهلية، الحكم، التجديد، الشريعة، للتعرف على جذورها اللغوية الأولى، واستعمالاتها في القرآن الكريم والمرويات والكتب التراثية ومقارنتها باستعمالاتها المعاصرة في معجم جماعات الإسلام السياسي؛ كاشفاً عن التباين بينها، في محاولة لتعرية مفاهيم الجماعات وإعادتها إلى سياقاتها الإنسانية النسبية المحتملة للصواب والخطأ، المتأثرة بالأفق التاريخي، والنسق الثقافي للعصر الذي أنتجت فيه، معدّداً أسباب ومظاهر الاحتيال الدلالي في معجم لغة الجماعات. انتهت الدراسة إلى أن أبرز مظاهر الاحتيال الدلالي في لغة الجماعات إعطاء بعض الألفاظ القرآنية والتراثية مدلولات متأخرة لم يعرفها العقل العربي الأول الذي نزل القرآن الكريم بلغته معبراً عن أفكاره، وقد نشرت هذه الجماعات تلك العدوى في المجتمعات العربية والإسلامية.

عكاشة بن المصطفى، باحث وأكاديمي مغربي متخصص في علم الاجتماع السياسي والديني، كتب عن المؤثرات الغربية في عقل جمال الدين الأفغاني، مقسّماً دراسته قسمين؛ يتناول الأول المصادر المعاصرة، والآخر المصادر التراثية. درس في تأثير المصادر المعاصرة في فكر الأفغاني؛ تأثير حركة الإصلاح البروتستانتي: وكيف حاول الأفغاني من خلالها التثوير على الأزهر، وبيّن النزعة المادية والمركزية الإثنية الغربية، وكيف وظّف الأفغاني المصادر التراثية من خلال العلوم العقلية، شارحاً مفهوم العصبية لدى الأفغاني.

خلص الباحث إلى أن فكر الأفغاني كان حركياً أكثر منه نظرياً، إلا أنه مهّد الطريق لجيل من المفكرين والمصلحين عايشوه وجاءوا بعده، وتأثروا به إما إيجاباً أو سلباً. الحركة الدينية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ليست حركة مثل الوهابية والسنوسية والمهدية، فهي تتميز عنهم من حيث إنها تدعو إلى إصلاح ديني لا مرجعية له سوى القرآن والسنة، أما ما عداهما من فكر تراثي فقهي فتعتبره معرقلاً للفهم ومثبطاً للعزائم! إنها حركة استلهمت الحركة الإصلاحية الدينية التي قادها كل من مارتن لوثر وكالفن في أوروبا وكانت سبباً في تقدمها في نظره. فهي راديكالية «فكرية» من حيث إنها تنهل من «فهمها للقرآن والسنة» وتدعو المسلمين إلى العودة إلى النصوص المؤسسة، عبر تثوير نصوص القرآن الكريم، وإعادة قراءته. آمن الأفغاني بالفكر الحركي وليس التنظيري، فلم يكتب إلا قليلاً، بل كان يحث على إنشاء الجمعيات والجماعات مثل جمعية العروة الوثقى السرية، وأحزاب مثل الحزب الوطني الحر «السري». وكان وراء إصدار صحف عدة من قبيل «مرآة الشرق»، وصحيفة «مصر».

بينما تناول أحمد الشوربجي، باحث مصري متخصص في الحركات الإسلامية، الشخصيات المؤثرة في حسن البنا وجماعة «الإخوان المسلمين»، فدرس المنهج الحركي للأفغاني، وتتبع مسار الأفكار مروراً برشيد رضا الذي يرى الأفغاني المعلم الأول، في حين كان يلقب محمد عبده بالمعلم الثاني، مبيّناً بداية الخيط بين رضا والبنا، من خلال محمد الخطيب.

أما بشارة إيليّا، باحث لبناني في الفلسفة الإسلامية المعاصرة وأستاذ محاضر في الجامعة الأنطونيّة في لبنان، فدرس تأثير المحيط الثقافي في تفكير محمد عبده، وحاول فهم التناقض في عقله، متناولاً ثقافة الردود والسّجال التي قدمها عبده في كتاباته ودعواته، باحثاً في عقيد التثوير التي حملها، كما بيّن التناص في نصوص محمد عبده في فهم المنظومة الدّينيّة وبين توما الأكوينيّ، فيلسوف الكنيسة الكاثوليكيّة، ومحاولات عبده استدعاء النص الديني الإسلامي - المسيحي، في مقاربات ومقارنات قدّمها عبده وعرضها الباحث.

خلص الباحث إلى أن محمد عبده ارتضى، في مشروعه، أنّ العقل أساس فهم النّصّ الدّينيّ. ولئن كان هذا العقل الفلسفي الهرمينوطيقي مجال بحث، منذ شلايرماخر (Schleirmacher)، ودلتاي (Dilthey)، إلى هيدغر (Heidegger) وغادامير (Gadamer) وريكور (Ricoeur)، فقد صار يحدّد إمكاناً فلسفياً من إبداعات العقل نفسه المسكون بشوق طبيعي إلى التفلّت من حدوده، كما وصفه كانط (Kant)، وأن دعوة محمد عبده لتجديد منهجيّة التعليم في المعاهد الدّينيّة، وهجومه الحادّ على التقليد، وتحرير العقل من هيمنة الدّين ومؤسّساته، وإعطاء العقل سيادته العمليّة وسلطته القطعيّة المطلقة، كان له بليغ أثر في ولادات قيصريّة للتّيّارات اللّاحقة.

بينما يرى الباحث عبد الجواد ياسين، أن الحركات الدينية تشتغل على مرجعياتها التأسيسية بشكل انتقائي، وتنزع عادة إلى الخيارات الفقهية والكلامية الأكثر تشدداً، أو هي تبدو كذلك بسبب انطلاقها أساساً من موقف نقدي حيال المجتمع والسلطة، وينطبق ذلك على جماعة «الإخوان»، التي تكشف – على الرغم من بنيتها المهجنة ورغبتها في مغازلة الحداثة - عن خلفية «سلفية» ذات طابع ماضوي خشن. ويضيف، أن البنا وضع - بسلفيته السياسية المهجنة - بذرة التكفير والعنف من زاوية أخرى، هي زاوية الحاكمية، التي ستظهر في الجيل الأصولي التالي بدءاً من سيد قطب.

ذلك التناول المهم لجذور صناعة الحركة الإسلامية لنتاجها المعرفي، يؤكد التحليلات التي طرحتُها من قبل حول دخول الأصولية على المجال الفلسفي وضربت بذلك أمثلة في أكثر من عشر مقالاتٍ بهذه الجريدة. إن الأصولية ليست مجرد عمائم وحافلات ودبابات، بل يأتي في سياقها ومعها وضمنها مفاهيم تحاول اختراق العلوم والمعارف بغية بقاء التنظيم على قيد الحياة... نلاحظ اليوم كيف يسطو الأصوليون بمظاهرهم المتغيّرة وبأشكالهم المحدّثة على برامج وطاقات ومنصات، وذلك باسم الفلسفة والعلم والمعرفة.