قد يعتقد البعض أن الحرب في أوكرانيا هي أهم أسباب المخاوف المتزايدة من حدوث أزمة غذاء عالمية. لكن في حقيقة الأمر الأزمة كانت مثل كرة ثلج تكبر كل يوم منذ أكثر من عشرين عاماً، ما بين هجرة عكسية من الأرياف للمدن وتصاعد في مؤشر الآفات الزراعية، ومجاعات وجفاف وتآكل، ونقص حاد في مساحة التربة الصالحة للزراعة ومياه الري والطاقة، وتنافس اقتصادي غير مسبوق، وسلاسل توريد عالمية تختنق بسبب التحديات العديدة في أسواق العالم المختلفة، وزلازل اقتصادية تتبعها أزمات مالية طاحنة، وحروب ونزاعات وكوارث طبيعية وجائحة اجتاحت العالم، وتزايد سكاني متسارع والذي بحلول 2050 سيعجز كوكب الأرض عن استيعابه بالموارد المتوفرة عليه.
وحتى قبل أن تتدخل روسيا عسكرياً في نطاق واسع داخل أوكرانيا، كان عام 2022 في طريقه ليكون أحد أكثر السنوات ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية، وأكثرها نقصاً في الغذاء والجوع الشديد في أجزاء كثيرة من العالم، ومع ما يجري في العالم يكاد يكون من المؤكد أنه لن يكون هناك ما يكفي من الغذاء لإطعام العالم هذا العام، وهناك إشارة واضحة لما يحتمل أن يأتي هذا الصيف، وذلك ليس لتأثر إنتاج أهم المحاصيل في العالم فقط، بل لأن روسيا على سبيل المثال تعد واحدة من أكبر منتجي الأسمدة في العالم، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار جميع المحاصيل تقريباً في الأشهر المقبلة.
والزراعة لها مواسم، وعند مرور الموسم دون حصاد تظهر معضلة من أين يمكن أن يعوض هذا النقص؟ وإذا ما دمر صراع معين الأراضي الزراعية ومنافذ الخروج والدخول فكم سيستغرق من الوقت لإعادة البناء؟ ومن جهة أخرى، هناك دول هي الأكثر استيراداً للقمح على سبيل المثال في العالم، ولكنها في الوقت نفسه أكبر الدول في إعادة تصديره لدول كثيرة في قارتها، مما يعني أن الأزمات الغذائية ليس لها حدود ولا تخضع للتكهنات المتعارف عليها لصعوبة معرفة متى ستنتهي حرب معينة على سبيل المثال، أو متى سيحدث الفيضان أو الزلزال التالي المدمر، أو انتكاسة وبائية أو مناخية أو من صنع الإنسان، والتي تقف عندها عقارب الساعة ويبدأ العد العكسي في إدارة الأزمة أو توابع الكارثة.
إن العالم على شفا أزمة غذاء، وستكون الأسوأ منذ 50 عاماً على الأقل، وخاصةً أن الركود الاقتصادي يلوح في الأفق في أعقاب جائحة الفيروس التاجي كورونا، مما قد يجعل التغذية الأساسية بعيدة عن متناول العديد من سكان الأرض، وحالات طوارئ غذائية عالمية وشيكة يمكن أن يكون لها آثار طويلة الأمد على مئات الملايين من الأطفال والبالغين، ويواجه حوالي 50 مليون شخص خطر الوقوع في براثن الفقر المدقع هذا العام بسبب جائحة كورونا، ولكن الآثار طويلة المدى ستكون أسوأ، حيث يتسبب سوء التغذية في مراحل الطفولة في معاناة مدى الحياة.
وبالفعل، فارتفاع أسعار السلع الرئيسية كان في الماضي سبباً في تغيّر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبعض المجتمعات بلا رجعة. وثمة تساؤلات أهمها: كيف سيتمكن صغار المزارعين في العالم من الوصول إلى الأسمدة والبنية التحتية التي يحتاجون إليها، فضلاً عن الدعم المالي لتحمل الاضطرابات في السوق العالمية للأغذية والمحاصيل والأسمدة، في ظل غياب نظام غذائي عالمي مستدام وخطط عالمية على المدى الطويل لوقف فقدان التنوع البيولوجي، واعتماد أقل على الأسمدة ومبيدات الآفات، وجعل الموجود منها أكثر فعالية وأقل ضرراً بالبيئة، وتكون موجهة لخدمة الأنظمة الغذائية الصحية التي يحتاجها العالم، وهو ما يتضارب مع طبيعة الليبرالية الاقتصادية ومصالح العديد من القوى الإقليمية والعالمية. ومن سيترك سكان العالم للمرض لدخول المستشفيات، ولمن ستباع الأدوية واللقاحات، وصناعات عملاقة مرتبطة بسوء التغذية والنوعية في القيمة الغذائية لسكان العالم، ونقص وزيادة في العرض والطلب!