انطبعت صورة روسيا في الذاكرة الأمريكية والغرب عامة لسنوات، كدولة انتابها الضعف والاستكانة، هذه هي الصورة التي ترسخت في عهد بوريس يلتسين، بانتهاجه سياسة وصفت أمريكياً بأنها تتسم بالسكون الاستراتيجي، وأحياناً بالاستسلام، تجاه التحولات في دول جوارها في أوربا الشرقية، والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق.

ثم جاءت المراحل الأولى من توسع حلف الناتو، ليضم إليه عدداً من هذه الدول. وفي قياس دول الغرب لرد فعل يلتسين، فإنهم وجدوه يكتفي ببعض التصريحات اللفظية، والخطوات غير المكتملة لوقف هذا التوسع.

لكن حدث بعد ذلك ما يغير شيئاً فشيئاً من الصورة المتوازنة عقلياً ونفسياً لروسيا. التي انعكست في صعود هادئ لكنه ممنهج، ولم تتنبه دول الغرب في البداية إلى أن روسيا تتهيأ لتكون لاعباً مهماً إقليمياً ودولياً.

كانت صفحات الصورة السلبية تطوى تدريجياً على يد بوتين منذ أصبح رئيساً لروسيا عام 2000، فهو سار على خطى بنيت على أسس علمية، بدأت بإنجاز صحوة اقتصادية، تأسست على صادراتها من الطاقة، وتوالت الخطى بتشييد بنية مجتمعية قوية، وتجديد الاهتمام بالتصنيع العسكري وتصديره، والتمدد إلى علاقات إقليمية خارج النطاق الأوروبي، وبدا وكأن أمريكا قد فوجئت باتساع حركة روسيا إلى هذا المجال الجغرافي البعيد، والذي كانت حتى ذلك الحين تعتبره ملعبها بلا منافس، وكانت أولى الصدمات تواجدها العسكري الكبير في سوريا.

بالطبع كانت أوروبا الشرقية تمر بفترة انتقالية، بعد خروجها من تحت عباءة الاتحاد السوفييتي واستقلالها تحت قيادة زعماء كانت لديهم تحفظات ورفض لقيود الحكم الشيوعي السابق على الحريات الفردية والعامة، وصاحب ذلك توجهات لدى بعضهم للارتباط بعلاقة قوية مع أمريكا.

لكن رد الفعل الأمريكي امتزج بمشاعر المفاجأة – وهي ليست مفاجأة بالمعنى الحرفي – فسارعت إلى جذب هذه الدول ناحيتها، ليس فقط في إطار العلاقات الثنائية والسياسية، بل بضمها إلى حلف الأطلسي، بما يترتب عليه من اقتراب الحلف من الحدود الروسية، بقواعد عسكرية، وأسلحة متطورة على مرمى البصر من حدود روسيا.

وبدا وكأن النظرة القديمة لروسيا المستكينة والمستسلمة، لم تفارق رؤية الغرب لروسيا، التي كانت من الناحية الواقعية قد خرجت من نطاق تلك النظرة السابقة.

وهذه النظرة عبّر عنها بدقة الكاتب الأمريكي الشهير أيان بريمر، صاحب العمود السياسي الأسبوعي في مجلة «تايم»، وذلك في جلسة مناقشة بمركز الدراسات الأوروآسيوي، وهو مؤسسه ومديره، وأقر بريمر بوجود نظرة من الغرب ترى روسيا على أنها روسيا السيئة Bad Russia، وفي أجواء هذه النظرة مضت أمريكا في خطط توسيع الناتو شرقاً، وكأنها تغلق الباب أمام أي تصور لروسيا على أنها روسيا الطيبة Good Russia - حسب تعبير بريمر – كما لم تضع أمريكا في حساباتها عندئذ أنها قد تدفع بذلك روسيا ناحية ما ستعتبره أمريكا، تحالفاً غير مقدس مع الصين وإيران.

ورغم ذلك فإن الصعود الروسي، لم يغير من الحسابات الأمريكية عن فلسفتها السياسية، الطموحة بشأن كونها القوة المهيمنة على النظام الدولي دون منافس، مع قلق متزايد من أي منافسة لها في هذا المجال، من الصين أولاً، ثم من روسيا التي بدأ رئيسها بوتين يكرر أحاديثه عن التعددية على قمة النظام الدولي.

وكانت تلك الحسابات هي التي دفعتها إلى عدم تقديم رد إيجابي ومطمئن على مذكرة بوتين – قبل شهور من حرب أوكرانيا – بالتفاهم بينهما حول مخاوف روسيا الأمنية من توسع الناتو على مقربة من حدودها، ومنبهاً إدارة بايدن إلى أن أمريكا في عهد الرئيس جورج بوش الأب، كانت قد التزمت علناً ورسمياً، بعدم توسع الناتو شرقاً.

إن الميراث القومي والتاريخي، بكل مراحل صعوده وهبوطه، ليس مجرد لحظة عابرة في تاريخ الأمم.. وحتى لو كانت روسيا قد مرت بحالة من الضعف داخلياً وخارجياً، فإن هذا الميراث يظل كامناً في أعماق وواقع هذه الشعوب.

وبالتالي فإن روسيا التي كانت عبر مراحل تاريخية طويلة، تحسب في نظر الجميع، وحتى من أعدائها قوة عظمى، فلم يكن ممكناً أن تستسلم لرغبة الآخرين للتعامل معها على أنها دولة لا يحسب حسابها، ويبدو أن ذلك لم يتقبله صناع الاستراتيجية الأمريكية العالمية، واكتفوا بما يرونه هم، بعيداً عن قراءة التاريخ.