كانوا يخرجون من وراء العازل ويعلنون: اقترعت لقوى التغيير لأنني أريد العودة إلى لبنان!

وكان مئات الألوف في لبنان، قد تسمروا أمام شاشات التلفزة يواكبون طوابير الكرامة التي امتدت أكثر من كيلومتر تحت قيظ شمس دبي، والأصوات ترتفع: سنقترع ثأراً ممن تسبب في تفجير بيروت! وأمام قلم الاقتراع في باريس تردد سيدة: بيكفي! الأمهات في الطرقات يطالبن بمعرفة كيف قتل أولادهن، وهم يترشحون مجدداً للنيابة من أجل الحصانة والإفلات من العقاب!

ويرتفع الهتاف والتصفيق في البيوت أمام مشهد شابات وشبان يركضون مع حقائب السفر إلى مركز الاقتراع، يدخلون قبل دقائق من إقفال الأبواب، يقترعون ويخرجون رافعين علامة النصر: اقترعنا لـ«17 تشرين» كي يكون ممكناً تسريع عودتنا إلى الوطن! ورغم العراقيل اقترع نحو 130 ألفاً أوحت مواقف واسعة أن أكثرية وازنة من بينهم دعمت قوى التغيير، رغم الحملات المبرمجة التي استهدفت تيئيس المقترعين. مارسوا حقهم في التصويت العقابي لتأديب التحالف المافياوي وقالوا للمتسلطين ارحلوا!

التأييد لقوى التغيير، وحصول قوى معارضة على دعمٍ لافت، أظهر أن تصويت المغتربين، وبالأخص الشباب، ومن تهجر في السنوات القليلة الماضية، يستهدف قلب المشهد السياسي، ما أعطى إشارة قوية إلى حقيقة ما كان ينبغي أن تكون عليه الانتخابات، لو أن حداً أدنى من الحرية متاح في كل لبنان، بعيداً عن حملات تخوين المرشحين وتهديد بعضهم الآخر كما تهديد المواطنين بلقمة خبزهم! لقد وجّه مشهد انتخابات الخارج رسالة حماسية للمقيمين منحتهم جرعة أمل كبيرة، بأن الهواء النقي الذي أتت به الثورة لن يخبو. وتنبه كثيرون إلى أن الانتخابات اتخذت طابع المعركة الوطنية ضد المصادرة والتخوين، وأوساط واسعة كانت تعتزم المقاطعة عادت عن قرارها، لأن برلمان 2022 سيرسم مسار مستقبل البلد لعدة عقود.

لقد أقلقت حملة «صوِّت للتغيير» التحالف المافياوي، وقرعت جرس إنذار للمتسلطين، ظاهرة التصويت الأخلاقي للوائح الثورة وقد طال الوهج كل هشيم المناطق اللبنانية، التي تلفها الفاقة ويحاصرها العوز. لم يخفِ رئيس الجمهورية قلقه فعبّر عن مخاوف من أن «الشبان المتحمسين قد يعتمدون ما يسمى الصوت العقابي لأنهم أبناء الحاضر ولا يعودون إلى التاريخ لمعرفة سيرة ومسيرة كلِّ طرف»! طريف أمر القاطن في القصر الجمهوري ما زال مقيماً في تاريخ أسس للخراب، يتعامى عن مسؤوليته المباشرة يوم فجروا بيروت وكان يعلم فاكتفى بالقول ما عندي صلاحية! فهل يظن أن أهل الضحايا والمتضررين والبيارتة وكل اللبنانيين يجهلون كيف توزعوا الأدوار لمصادرة الحقيقة وتضييع العدالة ونحر القضاء!

لكن على مسافة أيام من الانتخابات تقدم مشهد الجنوب، وبرزت مخاوف المتحكمين من أن تكون الانتخابات محطة لبدء مرحلة جديدة من ثورة تشرين، فتحركوا من أجل الحدِّ من مفاعيل تصويت المغتربين في شحن الداخل. ولئن لم يتمكن «الثنائي المذهبي» من إخفاء امتعاضه من القوى التشرينية التي فرضت مواجهة في الجنوب، فإن الإنزعاج كان عميقاً حيال ترشح وجوه من نسيج البيوت، التي صبرت وقاومت ودفعت ثمن التحرير مرتين: الأولى إبان مقاومتها المديدة للعدو، والثانية في مرحلة التسلط لتحويل الجنوب علبة بريد خدمة لأجندة خارجية. ومعروف أنه منذ 30 سنة عطّل «الثنائي» السياسة وألغى التعددية، وسخّر إمكانات الدولة وأجهزتها في خدمة مصالحه. فاختار «نصرالله» الجنوب في أول إطلالاته المكثفة، وأول هواجسه «تبرئة» السلاح من تبعات الانهيارات، التي نقلت لبنان خلال أشهر من وطن البحبوحة إلى وطن التسول. وثاني الهواجس استعادة سردية نزاهة «المقاومة» و«وفائها»، لتطويق المتزمرين ومن اعتزم المقاطعة، خدمة لعنوان تمديد التسلط. ولأن بيت القصيد تطويق قوى التغيير لقطع مسار إعادة تكوين سلطة مستقلة، أعلن «نصرالله» الاستنفار العسكري في صفوف «المقاومة» لمواكبة مناورة «مركبات النار» الإسرائيلية! فتقدم منحى الترهيب للقبض على صناديق الاقتراع ومعه طال التخوين وتهم العمالة العديد من المرشحين!

وضع «نصرالله» اللبنانيين أمام خطاب تمجيد السلاح، وحدد هدف الانتخابات بالتصويت لحمايته: «تخرجون من بيوتكم صباح 15 أيار لتمارسوا المقاومة السياسية لتبقى لنا المقاومة العسكرية المسلحة»! وحثهم على التصدي لما وصفه بـ«حرب تموز سياسية»! مستغرباً أن اتساع المطالبة يحصر السلاح بيد الجيش فيزعم أن استطلاعات رأي تحدثت عن أولوية المطالب المعيشية ولم يرد فيها أن السلاح مشكلة ملحة! وشطب الجيش من المعادلة لأنه «عاجز عن حماية البلد»(..) وطرح خياره: «من يرد أن يحافظ على لبنان ويحميه ويستخرج ثروته النفطية والغازية فليصوت للمقاومة وحلفائها»! متغاضياً عن الخط 29، خط الحدود والحقوق، ومتعامياً عن بدء العدو الضخ من «كاريش» رغم المزاعم بأن وظيفة السلاح حماية الثروة! ليهاجم الذين «لم يلتفتوا لهموم الناس من أموال المودعين» في تجاهل لوجود مرشح الكارتل المصرفي مروان خير الدين على لائحته المتهم باحتجاز 5 مليارات دولار من الودائع وأول من روج لليلرة الودائع!

ما افتضح بعد «17 تشرين» أن سلاح «المقاومة» حمى الفساد، ورعى تحاصص الدولة لتمويل الدويلة، وحمى السوق الموازية والتهريب وغطى عملية نقل الثروة من الداخل إلى الخارج. وتعرف الناس أن الطبقة السياسية التي وفّرت لـ«حزب الله» الغطاء لاختطاف الدولة، احتمت بمقولة إن السلاح أكبر من لبنان وإنه قضية إقليمية، وكانت أولوية كلٍ من أطرافها مصالحه وطموحه بمكافأة تعزز من حصصه في «جنة الحكم»! بالتزامن يتندر أبناء الجنوب والبقاع بتعهدات سابقة عن مقاومة الفساد ورفض الضرائب والحصيلة صارت الكبة الجنوبية بلا لحمة وعزّ الرغيف بعدما فقد الدواء!

لقد وجه اقتراع المغتربين صفعة لمن ارتهن البلد ويمضي في مخطط الاقتلاع وتغيير الهوية وتهديد الوجود. والأهم كانت الرسالة إلى المقيمين بأن بين أيديهم السلاح الأفعل: أصواتكم ينبغي أن تكون عاصفة التغيير، ووحده التصويت العقابي يحدُّ من سلبيات مذهبة قانون الانتخاب والمال السياسي والرشى ويفتح الطريق لانتشال البلد واستعادة الدولة المخطوفة والقرار ويفتح باب المحاسبة والمساءلة.

ومع تلاشي الدعوة للمقاطعة واتساع انتقاد مواقف الحريري التي صبّت في طاحونة «حزب الله»، لفت الانتباه ما أعلنه الوزير السابق رشيد درباس عن المقاطعة: «نكون قد مهدنا للاستبداديين سبيلهم، وسلمناهم الدولة بقضها وقضيضها لقمة سائغة»! كل ذلك سيطلق موجة تحريض طائفي وتعبئة مذهبية لحرف اهتمام الناس عن وجعهم وإعادة إيقاظ المخاوف من عدو طائفي كامن. ومع إعلان «حزب الله» التعبئة، وبالتالي لا صوت يعلو على صوت المعركة، فالعملية الانتخابية مهددة وقد يشهد البلد محاولة فرض قوانين حزبية زاجرة على الانتخابات بوهم القدرة على تأبيد التسلط وتأبيد معاناة الناس واتساع الإذلال!