عندما قدم نيبور ورفاقه إلى الجزيرة العربية لغرض الاكتشاف العلمي، جاءوا يحملون خلفيتهم الحضارية الأوروبية التي تختلف عن الثقافة في الجزيرة العربية، وما نالوه من نصيب من الحضارة في وقت افتقرت فيه الجزيرة العربية في ذلك الوقت إلى الكثير من معطيات الحضارة الحديثة، حيث استمر أهل الجزيرة العربية ردحاً من الزمن بعيدين عن مناهل الحضارة، بسبب ظروف كثيرة ليس هذا المجال لذكرها بهذه الخلفية الحضارية وصف نيبور الجزيرة العربية، وقال ما قال عنها، وقد أصاب في بعض ذلك، وربما جانبه الإنصاف في مواضع أخرى، وقد ركز على ما له علاقة بالثقافة والعلوم، والفروق الكبيرة بين ما لدى الأوروبيين، وبين سكان الجزيرة العربية في ذلك الزمان من معطيات ثقافية وتعامل إنساني، وقد وصف لنا ذلك التعامل الإنساني، وطريقة المعيشة، والحكم في الحجاز واليمن، وكيف أنه قد أجبر في بعض المناطق من النزول عن حماره إذا مر ببعض المسلمين لأنه غير مسلم، ووصف درجة التزام المسلمين بفرائض الإسلام مثل الصلاة والزكاة والصوم.

مع أن نيبور قد ذكر أشياء في الجزيرة العربية لا يستحسنها إلا أنه علق تعليقاً جميلاً يستحق الذكر، وقد عبر عنه بطريقة بسيطة فقد ذكر أن الحضارة قد أفسدت على الإنسان الكثير مما يتوق إليه، فالإنسان بطبعه يعشق الطبيعة، والحرية، والبساطة، والاستقلال، حتى أنه يبحث عن ذلك في الشعر الرعوي، ‏والإنسان قد خلق للسعادة فحسب، ولهذا فهو يبحث عنها أينما وجدت، لكن يبدو أن التقدم الحضاري يعني حاضرة في ذلك الزمن، قد أفسدت على الإنسان تلك السعادة المنشودة، غير أنه نيبور قد أتيح له القدوم إلى الجزيرة العربية، فوجد فيها تلك العراقة، والبساطة، والتقاليد، التي مدته بالسعادة التي يصبو إليها حيث أفقدته الحضارة طعمها ولذتها، ورأى في المجتمع الذي يعيش في الجزيرة العربية مجتمعناً قد خلق لنفسه السعادة ببساطته، وتقاليده، دون تعقيد، أو تراكم من مشكلات، وهو راضٍ بما وصل إليه، وما يعيش فيه، والرضا هو غاية السعادة، والعربي يمد بصره إلى الأفق الواسع ويطلق عينيه في الصحراء، وعلى تلال الرمال، وأحيانا الهضاب، ويشبع ناظريه بذلك المنظر الممتد الذي لا نهاية له، فينعم بالحرية والاستقلال التي تمنحه إياه الطبيعة دون منة مخلوق، التي كثيراً ما تصاحبها منغصات، وكأنه يملك تلك الصحراء، ويعيش سعادة غامرة لا يمكن أن يجدها في العالم الذي يدعي أنه متحضر، وهو من حيث الزمان يعيش في فترة قد نالت فيها بعض الشعوب شيئاً من الحضارة، لكنهم يرونها من بعيد من خلال زواره الأجانب، أو يسمع عنها دون أن يراها، ويكتفي بما سمع دون أن يكلف نفسه عناء محاولة نقلها، فهي ليست من اهتماماته.يقول نيبور: العرب هم الوحيدون الذين يعيشون العراقة وبساطة التقاليد، يقول عندما عشنا معهم هزت أدمغتنا تلك العادات الخارقة، واللغة المحكية العريقة، والقديمة قدم التاريخ، والبديعة في لفظها ومعناها، والتي تحاكي الطبيعة المتنوعة من سهول ووديان وهضاب وجبال، وهي لا تخلو من مناطق خصبة كأنها تحاكي المناطق المعتدلة، تزرع فيها محاصيل عريقة عراقة أهلها، بعيدة عن عبث الإنسان أو تدخله إلا في فترات من هيجانه ليخرب النظام العام الذي صنعته الطبيعة، والذي بقي على أمد الدهر سليماً من التدخل الخارجي.ويقول: إن ما رأيناه يعكس حقيقة جهل المؤلفين اليونانيين واللاتينيين بتلك البلاد، وأن ما نقلوه لنا بعيد عن الواقع، كما أن المعاصرين لا يذكرون سوى المخاطر التي تحف بزوار تلك البلاد، أمما أوردوه من معلومات فهو بعيد عما شاهدناه، رغم أننا لم نزر سوى مناطق محدودة، وهذا يوضح بجلاء جهلهم بهذه البلاد المتميزة.

لقد نقل لنا المؤرخون أن ديار العرب خاضعة للأتراك والفرس، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فلم يكونوا كذلك، وظلوا مستقلين بحياتهم، وتقاليدهم، وشيوخهم، وعشائرهم، ولم يكون لأولئك الغزاة أي أثر أو تأثير في حياتهم، وبقوا مستقلين عنهم استقلالاً كاملاً، يعيشون ما عهدوه منذ القدم، وتتوارث الأجيال عراقة التقاليد، وتعيشها كما كان الأجداد يعيشونها، سواء في المعيشة والحصول على لقمة العيش، أو الحياة الاجتماعية بمعانيها الواسعة، أو التركيبة الإدارية المبنية على العشيرة.ويقول ما معناه: وحيث إنني لم أزر جميع البلاد فقد قابلت بعض العلماء، والتجار الثقات الجديرين بمدي ببعض المعلومات عن المناطق التي لم أزرها، ولم يكن في الإمكان الحصول على كتب هناك رغم وجود القليل منها لعدم توفر مكتبات، وصعوبة النسخ.

هذا شيء مما ذكره ذلك الرحالة المتميزة، مع بعض التصرف في الصيغة، والتوسع في المعنى، للتيسير على القارئ الكريم، وإيضاح ما عناه في جمله المختصرة، التي حواها كتابه الثمين، فهو بحق مرجع مفيد وممتع لمن لديه ولع بالتاريخ.