في انتظار ما ستحمله النتائج النهائية من مفاجآت، تكثر الأسئلة حول «اليوم التالي» للانتخابات، وتنتظر الكثير من الملفات البتّ بها وكلّها يتعلق بتصحيح الوضع المالي والاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع الدول المانحة وشروطها الإصلاحية.

في وقت كان تأخير الخطوات المطلوبة مرهوناً بانتهاء الانتخابات على رغم كل التبريرات بأن البرلمان الجديد أقدر على اتخاذ القرارات الموجعة، لأن النواب المنتهية ولايتهم لا يريدون إغضاب الناخبين، فإن المقدمات التي سبقت يوم الاقتراع لا توحي بتسريع الخطى لإنقاذ البلد من الحفرة التي هو فيها، بل توحي بأن وضع لبنان المزري سيبقى مرهوناً بالصراعات الإقليمية المتشعبة.

أهم ملفات «اليوم التالي» ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل المجمد منذ الزيارة الأخيرة للوسيط الأميركي إلى بيروت في 9 شباط الماضي، والتي أعقبها إرساله عرضاً مكتوباً لحل الخلاف مع إسرائيل يتضمن خيارين، ينطلقان من تسليم لبنان بالخط 23. وأحد الخيارين، بعد استبعاد لبنان صيغة تقاسم الإنتاج من حقل قانا لتجنب التطبيع، رسم خط متعرج يعطي لبنان الجزء الصغير من حقل قانا المتداخل مع المنطقة العائدة إلى إسرائيل، مقابل التسليم من الجانب اللبناني بحصول إسرائيل على حقل كاريش الذي لزمته لشركة «إنرجين» اليونانية والتي لزمت بدورها من الباطن شركة «هاليبورتون» الأميركية الحفر فيه. ما رفضه الجانب اللبناني هو أن تحصل إسرائيل مقابل إعطاء اللسان المكمل لحقل قانا، بأن يمتد التعرج في رسم الخط في عمق البحر كي تحصل الدولة العبرية على مساحة توازي ما تخلت عليه من حقل قانا.

أظهرت التعبئة الانتخابية أن هذا الملف الذي يعول عليه من أجل تأهيل لبنان للحصول على مداخيل من الغاز والنفط المحتمل اكتشافهما في عرض البحر، سيعود إلى دائرة التصعيد والخلافات الداخلية بدل تسهيل التفاوض. عشية الانتخابات، أمهل رئيس المجلس النيابي نبيه بري الوسيط الأميركي «شهراً واحداً» لاستئناف مفاوضات ترسيم الحدود، تحت طائل تفرّد لبنان بعملية «البدء بالحفر في البلوكات الملزمة من دون تردد»، في حين هدد الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بإطلاق مسيّرات جوية فوق السفينة التي أبحرت باتجاه المياه الإقليمية للتنقيب في حقل كاريش «لا لنقصفها بل لنعطيها إنذاراً»، مؤكداً عزم «حزب الله» على منع إسرائيل والشركات العاملة معها من التنقيب في المناطق المتنازع عليها.

نتيجة هذين الموقفين هي العودة إلى نقطة الصفر في التفاوض الذي رافقته مسحة من التفاؤل خلال زيارة هوكشتاين الأخيرة، لأسباب عدة، أولها أن بري ونصرالله اللذين سلّما بأن صلاحية التفاوض تعود إلى رئيس الجمهورية ميشال عون وفق الدستور، بالتنسيق مع رئيس الحكومة وبري، يسحبان من عون مجدداً هذا الحق. وثانيها أن لبنان سلم، بإبلاغه هوكشتاين منذ زيارته الأولى في تشرين الأول الماضي بأن حقل كاريش يعود إلى إسرائيل لمجرد إجماع الرؤساء الثلاثة على التسليم بالخط 23 والإقلاع عن المطالبة بالخط 29، لأن حقل «كاريش» يقع خارج المنطقة التي يحددها الخط 23 على أنها عائدة للبنان. وثالث الأسباب التي توحي بالعودة إلى نقطة الصفر هو أن لبنان الذي كلف فريقاً ديبلوماسياً وتقنياً من 3 وزارات مختصة ورئاستي الجمهورية والحكومة، بصوغ رد على عرض هوكشتاين المكتوب والخرائط المقرونة به الذي أنجز قبل زهاء شهر ونصف الشهر، لم يرسل رده هذا إلى الوسيط الأميركي، وبالتالي فإن التأخير في معاودة التفاوض يعود إلى التلكؤ اللبناني نتيجة الخلافات بين الرؤساء حول الموقف المطلوب. وحصل التأخير بعد أن شن نصرالله حملة عنيفة على الوسيط الأميركي معتبراً أنه غير نزيه. أما السبب الرابع فهو أن نصرالله بتهديده بإرسال مسيّرات فوق حقل كاريش يعود عن التزامه السابق بالوقوف خلف موقف السلطة اللبنانية، ورفضه التدخل في مسألة ترسيم الحدود، فما الذي تبدّل حتى يتم انتزاع التفاوض من عون الذي كان يتّجه للتوصل إلى حل وسط مع الوسيط الأميركي؟

لا تفسير للتبدل في موقف «الثنائي الشيعي» سوى العودة إلى ربط التقدم في ترسيم الحدود، بالتوقيت الإيراني وبالتفاوض الجاري على النووي الإيراني في فيينا، المتعثر نتيجة رفض واشنطن الأخذ بمطلب طهران إزالة الحرس الثوري الإيراني عن اللائحة الأميركية للإرهاب. وثمة من يعتقد أن هامش الاستقلالية الذي كان الرئيس بري يتمتع به في هذا المجال وغيره في السابق قد ضاق إلى حدوده الدنيا، أمام الحاجة الإيرانية لاستخدام الأوراق المتاحة لعقلنة توجهات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الساعية إلى تمكين إسرائيل من استخراج الغاز والنفط في زمن التفتيش عن مصادر طاقة بديلة لاستيرادها من روسيا.

ينقص التهديد بانفراد لبنان بالحفر لاستخراج الغاز والنفط في البلوكات العائدة، كما قال الرئيس بري، إقبال الشركات على ذلك. فدورة التراخيص التي أطلقتها وزارة الطاقة اللبنانية لتلزيم البلوكات في المنطقة ضمن الخط 23، لم تجد حتى الآن أي شركة تتقدم بعرض للحصول على التزام التنقيب فيها على رغم أنها غير متنازع عليها مبدئياً. فهل أن الشركات العالمية بدورها تنتظر الانتخابات لعلها تأتي بتركيبة سياسية يمكن الوثوق بالتزاماتها في التنقيب عن الغاز؟ وهل ينتظر هوكشتاين قيام البرلمان الجديد ليتلمّس إذا كان من استعداد لبناني لاستئناف التفاوض ليعود أو ليترك هذه المهمة للقدر؟