أين دوَّن العربُ تاريخهم السياسي، خلال ألفي عامٍ مضت؟ كيف وثّقوا حروبهم ومصالحاتهم، ولماذا نجحوا في استبقاء مآثرهم الأخلاقيّة، ومواقفهم السياسيّة الخالدة؟ كيف سيتذكّر الناس انتقال الحكم السلس بعد مئات السنين؟ وكيف سيبقى كل شيء عظيمًا على الدوام؟

الشعر ديوان العرب، ومهرع حكمائهم عند الملمات، ففي ثنايا طبقاته ما يمثّل قيمهم ويبرز تاريخهم ويحافظ على حاضرهم. وفي روح كلماته ما يُرِيح خواطرهم، ويُنقذ المعاني التي يفشل النثرُ في بيانِها واستثارتها وحفزها. وهذا ضرب من الفنون التي تميّز الحضارة العربية من قديم الزمان، إذ حافظت على نقل القيم، عبر منقولات خالدة، دوَّنت التاريخ تدوينًا: بألسنة الحكماء، بأسلوب لا يجيده غيرهم، فتأتي درره في لحظةٍ خاصة، لقائلٍ خاص عن حدثٍ نادر، فتنقله بسبب خصوصيته الأجيال، ويصبح المثل فيها، كما كان مع كرم حاتم، ووفاء السموأل، ودهاء عمرو، وحكمة أبي الطيب.

بالأمس، والناس في غمرة الحزن، تلعثمت الكلمات، حين نعى الناعي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، الرئيس الثاني لدولة الإمارات، فانطلقت العبرات، وانحبست العبارات، وصعب على الناس الكلام... وخلال لحظات الترقب جادت على الناس قريحة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم شعراً، فبعد نعيٍّ وقورٍ، وكلمات حكيمة، بقصيدةٍ قصيرة الأبيات عميقة المعاني، جاء الشعر، ليكون مثيلاً للبيانات السياسية، والتحليلات الاستراتيجية... وكان الشعر توثيقاً للمواقف السياسية، بقصيدة «موقف»، للشيخ محمد بن راشد.

كانت تعابير الحزن في قصيدته واضحة، إذ نبع الرثاء من قلب مملوء بالتأثر، حين قال الشيخ محمد:

أنعي إلى الشَّعبْ منْ باسمه يعيشْ الشَّعبْ

وأنعي إلى الكونْ عضدي ريِّسْ الدولِهْ

خليفهْ اللِّي مثِلْ مايْ السَّحابْ العَذبْ

وريثْ عرشْ العلا يمناهْ مبذولِهْ

ثم تقدّم بثباتٍ، نحو ترسيخ إرث العرب، في الملمات، فبايع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد من فوره، قبل أيّ بروتوكولات، أو إعلانٍ رسمي، في أبيات لافتة، قال فيها:

اجعلْ خليفهْ بجنَّاتْ النِّعيمْ

وصِبْ عليهْ منْ مَغفِرَهْ بالعفوْ مشمولِهْ

وصبِّرْ محمدْ ونوِّرْ لهْ يا رَبْ الدَّربْ

نعمْ الخَلَفْ للسَلَفْ ريِّسْ علىَ الدُّولِهْ

لي لهْ نبايعْ علىَ الطَّاعَهْ بصدقْ وحبْ

وطاعَةْ وليْ الأمرْ بالحَقْ مكفولِهْ

كانت هذه الأبيات الحاسمة في نظر كثيرٍ من المحللين السياسيين خبرًا سياسيًا، ففيها تأكيد على سلاسة انتقال الحكم، ورسوخ قيمة الاستقرار، في الإمارات ودول الخليج العربي. بيد أنّ معنى هذه الأبيات لدى علماء الاجتماع، أكبر من ذلك وأكثر، إذ إنها في عرف العرب، كانت تخليداً للحظة تاريخية من الوفاء والولاء والتعاضد والتساند والإخاء، يتناقلها الجيل تلو الجيل، فالقصيدة التي كانت أبياتها علامة وفاء ورثاء، كانت في الوقت نفسه، إعلان بيعة وولاء، وهنا تكمن القيمة السياسية للشعر العربي وبخاصة في الجزيرة العربية، فلا نعرف -نحن العرب- ديواناً يحمل إرثنا، وقيمنا، وينقلها من جيل إلى جيل مثل: الشعر.

هذا الملح السياسي الذي كان الشعر وسيلته وسفينته، ليس حديثاً فقد سبق للشيخ محمد بن راشد، أن استخدم الشعر في مواقف سياسية مشابهة، والناسُ تذكر فيما تذكر، قصيدته في عاصفة الحزم، إذ يقول:

للسِّعوديِّة موَدَتنا وكَادْ

ولليِمَنْ.. وأهلْ اليمنْ أولادْ عمْ

جيشنا الباسلْ جنودْ الاتِّحادْ

نِعمْ بجنودهْ سِقوا العادينْ سمْ

توجه يومها بالإشادة بأبطال التحالف العربي، وبقادته، ممثلين في صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي عهد السعودية، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، يوم كان ولياً لعهد أبوظبي، فيقول عن الشيخ محمد بن زايد: يا أسودٍ للجزيرهْ باعتمادْ عندْ بوخالدْ لكم قَدرْ وأسِمْ نعمْ بهْ قايدْ علىَ جيشْ وبلادْ لهْ يردِّ الأمرْ ويردِّ الحكِمْ ثم يذكر صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، قائلاً:

أذكرْ إبْطيب الذِّكرْ منْ بهْ يشادْ

كلْ فضلْ ويذكرْ أسمهْ كلْ فمْ

ذاكْ بنْ سلمانْ بهْ تمْ المرادْ

المعادي إنْ سِمِعْ بهْ ينهزمْ

يا محمدْ فضلكمْ عمْ العبادْ

نعمْ بآلْ سعودْ حامينْ الحَرَمْ

ولما استعرت التضحيات، وقف بشجاعة الفرسان، مساندًا عضيده، ورفيقه الشيخ محمد بن زايد، فيقول له في سبتمبر (أيلول) 2015:

الخلاصة يا زعيم المرجله.. إن كل الشعب في أمرك يثور

ولي بديتَه يا محمد كمّله.. كلنا وياك يا صقر الصقور

وختم قائلاً: والنصر بعزومنا بنحصله.. ويا محمد أبشر بيوم السرور

كانت الثقة والصداقة والأخوة، التي تعكسها القصائد، مبنيةً على ميراث من المكارم التي ترقد التاريخ المديد، وتغذيها الوشائج بين الكرام، ولطالما اقتنص الشيخ محمد بن راشد، الفرصة، لإبراز الوحدة الوطنية، خلف القيادة، ففي ذكرى مولد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، في مارس (آذار) 2019 كتب:

الوطنْ بكْ عَزْ وإنتهْ لهْ زعيمْ

والشَّعبْ لكْ فَزْ سِرْ بهْ للأمامْ

إنتهْ جنبتهْ الخطَرْ وأمسىَ سِليمْ

وعاشْ في خيرْ وسعادهْ وإبتسامْ

وفي قصيدته أسد الإمارات، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، يضع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وصفًا دقيقاً لأبي خالد، قائلاً:

أعرفْ إسباعْ الفلاَ وسبعٍ أحيدِهْ

صاحبي الموثوقْ في حربْ وسلامْ

ذاكْ بوخالدْ عسىَ أيَّامِهْ مديدهْ

لي علىَ سباعْ الفلاَ شيخْ وإمامْ

تمضي الحياة، وتتبدل الأحوال، ويبقى الذِكر الحسن، والمواقف الخالدة، التي يفتخر بها الناس جيلاً بعد جيل. ولدى هذا النموذج الأخلاقي الإماراتي، بل ولدى أهل هذا الخليج العربي، وهذه الجزيرة العربية، من كريم الطِباع والأخلاق والقيم، ما يقدمونه إلى البشرية من نماذج، لسراةٍ هم كنانة الوفاء والعطاء، والقول الحسن، وشعوب ترث الفعل الكريم. وقد أحسن العربيّ القديم، الذي قال:

وإنِّي من القوم الذين عرفْتَهُمْ... إذا مات منهم سيّدٌ قام صاحبُ

نجومُ سماء كلما غاب كوكبٌ... بدا كوكب تأوي إليه الكواكبُ

* السفير السعودي لدى الإمارات.