عندما تغيب المعلومة الصحيحة والموثقة، تختلط على الناس الأمور، وبالتالي يُتخذ القرار الخاطئ، بل في بعض الأوقات المدمر. منذ الحرب في أوكرانيا انتعش النقاش في الأوساط العربية لنقد التناقض الحاد بين هبة الغرب لمساعدة الأوكرانيين وتقاعسهم عن نصرة الفلسطينيين، مع أن الشعبين يلاقيان في الجوهر العسف نفسه، وذلك خلل أخلاقي معيب. كما تمت المقارنة بين استقبال اللاجئين الأوكران في الدول الغربية، وبين التعنت في استقبال لاجئين من الشرق الأوسط، مع أن عوامل الدفع للجوء الإنساني تتشابه. الافتراض الخاطئ في العقل الذي يفكر بذلك التوجه أنه يفترض أن القيم الإنسانية الكبرى مطلقة مثل العدل و المساواة و الحرية والحقوق والتوزيع العادل للمغانم او الخسائر، وليست نسبية.

هذا الافتراض غير دقيق، ولم يكن دقيقاً في مسيرة الإنسان منذ أن سجل التاريخ مسيرته. كل القيم نسبية بدرجات مختلفة وتتأثر بعوامل عديدة.

في الحالة الأوكرانية تأثرت بعاملين كبيرين (من بين عوامل أصغر) هما أن أوكرانيا جزء قريب من أوروبا الرأسمالية المسيحية، والثاني أن (العدو) هنا قديم ومتجدد، والإشارة الى روسيا وهي عدو للغرب، حيث المصالح متصادمة والنزاع قديم.

إذاً، المعلومة الدقيقة العقلانية تأخذ التحليل الى آفاق مفهومة أكثر وأوضح، وأيضاً تمكن الاستفادة منها في التكييف أو المعالجة الصحيحة للقضية قيد البحث.

على مقلب آخر، فإن المتفق عليه في تاريخ فلسطين الحديث أنه لولا بريطانيا ووجودها في فلسطين بعد الحرب العظمى الأولى لما استطاعت الحركة الصهيونية أن تؤسس لها دولة. كما أن الدعم الأميركي في وقت لاحق عضد من بقاء الدولة الوليدة وتعاظم قوتها. ولكن التاريخ لا يقف هنا فقط، فهناك عوامل مهيئة للموقف الأميركي- البريطاني، كما أن هناك عوامل معوقة.

فقد أبحرت من الميناء الألماني هامبورغ باخرة محملة بعدد من اليهود الألمان عام 1937 متوجه الى نيويورك، ولكن الرئيس فرانكلين روزفلت منعها من الرسو في الميناء، فتوجهت الى كوبا حيث طلب الريس باتيستا مبالغ كبيرة على كل رأس، من أجل السماح لهم بالنزول الى اليابسة، دفع من هو قادر منهم، وهم قلّة، أما الباقون، وهم الأغلبية، فقد عادوا الى ألمانيا لينتهي كثير منهم في المحرقة. فلم يكن اذاً موقف الولايات المتحدة من المسألة اليهودية موقفاً واحداً في كل الأزمنة!

أميركا هي أميركا، في السابق الرافض للهجرة واللاحق المحبذ والداعم، ما اختلف هو الظرف وأيضاً العوامل السياسية والمصالح التي تدفع بهذه الاتجاه أو ذلك، وهي ظروف ومصالح متغيرة.

تصريح وزير الخارجية الروسي أخيراً المضاد لإسرائيل أطلق الكثير من النقد في إسرائيل، ما استدعى اعتذار الرئيس فلاديمير بوتين، وهذا يعني أن الثقل الوازن لإسرائيل في أوساط الكرملين يفوق ذلك الذي للفلسطينيين، أو حتى القضايا العربية، ما يشير الى خطأ افتراض آخر جرى ترويجه بين عدد من المتابعين العرب (نتيجة التعامل العاطفي مع القضايا) أن الوقوف مع روسيا في حربها الأوكرانية هو موقف قد يأتي بفائدة سياسية في المستقبل! في حين أن الموقف الصحيح الوقوف ضد العدوان!!

غياب المعلومة الصحيحة والمدققة يؤدي تلقائياً الى خسارة فادحة. قد ينطبق هذا القول على الصراع في أوكرانيا، فقد كانت الفكرة الأساس أنها (عملية عسكرية) ويعني ذلك أنها تحتاج الى أيام أو حتى أسابيع لتنتهي، وبنيت الفكرة على غياب النقاش الموضوعي المدعوم بالحقائق، فدخلت روسيا وأدخلت العالم معها في مأزق قد تتفاقم نتائجه السلبية الاقتصادية والعسكرية والإنسانية.

يرى بعض المحللين أن تفشي كورونا الذي انتشر في البداية في الصين وأخضع للتكتم والسرية لفترة طويلة هو من أسباب انتشاره عالمياً، ولو تفشى في بلد فيه من الشفافية ما يكفي لتمت معالجته ومحاصرته بشكل أفضل.

معرفة الحقائق كما هي من دون تدخل من العاطفة أو الهوى أو التسييس هي الطريق الأسلم لمعالجة المشكلات العالقة في أي مجال إنساني، وهي ربما زبدة الخبرة الإنسانية المتراكمة، والحقائق تقول إن المبادئ الإنسانية ليست مطلقة بل نسبية، كما أن دراسة عوامل التأثير ومعرفة مدخلاتها ومخرجاتها قد تؤدي الى معالجة أفضل لأي قضية، فلا يكفي القول إن القضية عادلة، بل يجب رفدها بحقائق موضوعية وعمل دؤوب.

المؤسف أن حولنا الكثير من الهيجان العاطفي الذي يحاول شرح ما نواجه من معضلات سياسية وإنسانية على قاعدة عاطفية، فالبعض يلجأ الى التفسير القومي أو الديني المريح أو حتى العنصري، للتبرير أو الإدانة، من دون دراية ودارسة المتغيرات المؤثرة في اتخاذ القرارات من قبل الغير، والتي تؤثر في قضايانا، لأننا بشكل عام غير بعيدين من الانصياع (لذهنية القطيع) والتي تخشى الجهر بما يجب أن يقال، او تجهر بما يحب الآخر أن يستمع اليه في زفة مغرقة بالانقطاع عن الواقع الموضوعي.

أنه نقص شديد في غياب المعلومة الدقيقة والصحيحة، وعندما تتوافر تلك المعلومة لدى العدو فهو يستخدمها بمهارة لتحقيق أهدافه. تنحو ثقافة المجتمعات الشمولية الى شتات المعلومة أو تجاهلها فتنهزم، وتتنصر الثقافات التي تستطيع أن تنظم معلوماتها وتدققها منسجمة مع العقل.