استعدت ما كتبته في كتابي «يوميّات التلصص» عن مدينة القاهرة التي طالما وجدت فيها حياة وروحاً مختلفتين لا نصادفهما في أي مدينة أخرى، حين طالعت منشوراً شائقاً للشاعر المصري فرانسوا باسيليي، المقيم في نيويورك، يعقد فيه المقارنة بين الأخيرة وبين عاصمة وطنه الأم، القاهرة.

لا يلزم الواحد منا أن يكون مصرياً ليحب القاهرة. أظن أنه في نفس كل عربي شيء من مصر، حتى من دون أن يزورها، فما بالنا بمن عاش فيها، أو ألِف زيارتها؟ وقد يشكو زوار القاهرة وأهلها من الازدحام والضجيج في المدينة، لكن ليس بوسعك إن أحببت المكان إلا أن تقيم معه علاقة ودّ ومحبة غير آبه بكل هذا.

وبالنسبة إلي، فإن المشي في شوارع وسط البلد بالقاهرة وزيارة مكتباتها التي تعج بجديد الكتب وقديمها، أو حضور حفل موسيقي، أو غنائي في دار الأوبرا، أو التجوال بين المعارض التشكيلية فيها، واللقاء بالناس الذين يشاطرونكم الهموم والهواجس والأفكار ذاتها؛ كفيلة بأن تخلق متعاً كبيرة، بحيث لا يغدو زحام المدينة هو الموضوع، فمصر فضاء إنساني رحب وخلية أنشطة ثقافية وفنية متنوعة.

عودة إلى ما كتبه الأديب المصري المهاجر والمقيم في نيويورك، الذي تحدث عن سؤال يلحّ على قلبه منذ فترة، وهو: «هل لنيويورك روح؟»، موضحاً أنه يعرف «أنها تمتلك جسداً يلمع بطلائه الذهبي الخاطف للبصر، كذهب التمثال الراقد فوق ساحة روكفلر سنتر الشهيرة، ولها جسد الرجل ال«هوملس» الراقد على الرصيف بلا مأوى، ولا حضن، وجسد المرأة «التروفي» المزدانة بالمجوهرات المختالة في صيحات الأزياء التي يصحبها زوجها للحفلات كجائزة انتصاره في معركة المال والجاه».

لكن هذا الجسد المبهر في تفاصيله لن يعني أبداً أن لنيويورك روحاً. إن كان من روح فهي هناك، في القاهرة التي أتى منها، منذ نصف قرن «فلا يمكن أن تخطو خطوة في أي شارع، في أي مكان في القاهرة إلا وتقتحمك روحها بلا استئذان».

وكمن يتحدث بلسان كل أهل مصر ومحبيها حين يأتونها بعد سفر يقول الكاتب: «عندما تضع قدمك في مطار القاهرة، لا يمكنك أن تهرب، أو تختفي، أو تنجو من روح القاهرة، تقتحمك وتدخلك وتسكنك، فتقلب وجودك رأساً على عقب، وتخلخل جسدك، وتزلزل وجدانك، كأن عاصفة هوجاء من مزيجٍ مدهشٍ من النار والماء والريح، والمواويل والقناديل والطبل البلدي والورد البلدي والحزن الدفين والفرح الغامر، قد لفحتك، وصفعتك على وجهك وقلبك، صفعات بالغة الإيلام واللذة والألفة والمحبة والرضا والامتنان، صفعات ودغدغات تحملها دقات أجراس الكنائس تعلن عرساً، أو مأتماً، ويحملها الأذان يؤكد من جديد أن الله أكبر».