تنتهج تركيا سياسة براغماتية حيال الحرب الروسية - الأوكرانية منذ اليوم الأول لاندلاعها في 24 شباط (فبراير) الماضي. فهي من بعد الولايات المتحدة، تعتبر الثانية من حيث الأهمية في حلف شمال الأطلسي، بسبب امتلاكها الجيش الأكثر عدداً في الحلف بعد الجيش الأميركي، فضلاً عن موقعها الجيوسياسي المهم عند ضفته الجنوبية.

وإتخذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطوات حذرة حيال الحرب. فهو ساير الغرب بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية المتجهة إلى البحر الأسود، وفق ما نصّت عليه معاهدة مونترو لعام 1936، كما أنه أغلق المجال الجوي التركي أمام طائرات النقل العسكرية الروسية التي تحمل جنوداً إلى سوريا. وفي المقابل، لم ينضم أردوغان إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

بيد أن تركيا فاجأت شركاءها في حلف شمال الأطلسي عندما أعلنت تحفظها على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وهذا التحفظ ليس نابعاً من موقف متعاطف مع روسيا، بل الباعث إليه، وفق ما يقول المسؤولون الأتراك، هو وجود واسع لناشطين من "حزب العمال الكردستاني" المحظور في تركيا، في كل من هذين البلدين. ووجد أردوغان أن هذه فرصته كي يحصل من هلسنكي واستوكهولم على تعهدات بتقييد نشاط هؤلاء الناشطين، قبل أن يمنح موافقته على ضمهما إلى الأطلسي. ومعلوم أن قرار قبول عضوية بلد ما في الحلف يجب أن تحظى بإجماع الدول الأعضاء وعددها حالياً 30.

ويجري قادة فنلندا والسويد اتصالات حثيثة مع الحكومة التركية لثنيها عن موقفها. كما يبذل المسؤولون الأميركيون جهوداً لدى أنقرة من أجل تسهيل عملية الضم، التي ستوجه ضربة جيوسياسية قوية لروسيا وتضعف موقفها في المواجهة الشاملة مع الغرب.

ومنطق الأمور يفترض أن أردوغان لن يتراجع عن تحفظه إلا إذا حصل على ثمن سياسي واقتصادي في المقابل. ونظراً إلى الأهمية التي يعلقها الغرب على توسيع حدوده في شمال أوروبا، فإن الولايات المتحدة وأوروبا، مستعدتان لإرضاء أنقرة.

ورغم ذلك، فإن الموقف التركي لا يشكل تخلياً عن الحياد المعلن من الأزمة الأوكرانية، ولذلك أسبابه المتعلقة بالمصالح التركية الخاصة قبل كل شيء. فتركيا تتمتع بعلاقات تجارية وثيقة مع كل من روسيا وأوكرانيا. ولا تريد أن تجازف بهذه العلاقات جراء اتخاذها جانباً في الحرب. وبحسب إحصاءات أوردها موقع "ذا ناشيونال إنترست" الأميركي، فإن تركيا تستورد من روسيا 45 في المئة من حاجتها إلى الغاز الطبيعي، و17 في المئة من الزيوت، و70 في المئة من القمح. كما أن تركيا تستقطب النسبة الأكبر من السياح الروس، الذين شكلوا نسبة 19 في المئة من إجمالي زوار تركيا عام 2021.

كما أن أوكرانيا بالنسبة إلى تركيا ليست أقل أهمية من روسيا. فحكومة أردوغان نددت بضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، وهي داعم رئيسي للتتار الذين يعيشون في المنطقة. والتجارة والاستثمارات بين تركيا وأوكرانيا كانت تتخذ منحى تصاعدياً. وعام 2021، كانت تركيا المستثمر الأجنبي الأول في أوكرانيا، بما مجموعه 4.5 مليارات دولار، ومع وجود 700 شركة تركية تعمل في أوكرانيا.

وكما استوردت تركيا نظام الدفاع الجوي "إس-400" من روسيا، فإنها باعت أوكرانيا نحو 50 مسيّرة متطورة من طراز "بيرقدار تي بي".

وهذا النهج البراغماتي هو الذي أهّل تركيا لاستضافة اجتماعين للحوار الروسي - الأوكراني، أحدهما على مستوى وزيري خارجية البلدين سيرغي لافروف وديميتري كوليبا.

ومن غير المرجح في المستقبل المنظور أن تنحاز تركيا إلى روسيا أو أوكرانيا، بينما تصر على تنكب دور الوسيط الرئيسي المقبول من الطرفين. ويعزز هذا الأمر من الدور التركي إقليمياً وأوروبياً.