يثير "كريستيان نوربرج - شولز" في كتابه عبقرية المكان، قضية مهمة ترتبط بتأثير العمارة على شكل المدينة ويرى أن "المكان الوجودي" يتشكل من امتزاج خصائصه الطبيعية مع عناصره المعمارية وهو في نفس الوقت الذي يحدد مشاعرنا نحو المكان المشاهد. هذا الموقف "الظاهراتي" Phenomenological من عمران المدينة أثاره الناقد الإيطالي "ألدو روسي" في كتابه "عمارة المدينة" في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وكأنه يقول إن المدينة المعاصرة على أهبة الاستعداد أن تتبنى أفكاراً جديدةً ستغير من صورتها التاريخية والمعاصرة إلى حد كبير. ومع ذلك يجب أن نقول إن "العمارة هي التي تصنع المدينة"، أي أننا لا يمكن أن نفهم الظاهرة العمرانية لأي مدينة دون أن نفكك عمارتها وعناصر هذه العمارة كيف صنعت المشهد البصري لأمكنة المدينة فإذا أردنا أن نفهم مدينة الرياض يجب علينا أن نفكك عمارة الرياض ونفهم تسلسلها التاريخي ونمو وتطور الأفكار التي شكلت هذه العمارة.

علاقة المكان بالعمارة، يمكن أن نفهمها من خلال ما كتبه الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" حول الفضاء Space والمكان place ومن المتفق عليه أن العلاقة بين المكان المطلق والمكان الخاص تدور حول مفهومين أساسين، الأول: الفضاء الذي يحتوي العمارة، وهو المكان المطلق الذي يحتوي المدينة نفسها، بينما الثاني: هو المكان الذي تحتويه العمارة، ونقصد هنا، الأمكنة التي تتشكل من العلاقات العمرانية للمباني، وغالباً ما تكون هذه الأمكنة هي الفضاءات المهمة في المدينة التي يتم فيها ممارسة الحياة. هذه الثنائية "الفضائية" التي تزاوج بين الفضاء العام الشامل والفضاء الجزئي تشكل خبرتنا اليومية وعلاقاتنا المباشرة وغير المباشرة مع عمارة المدينة.

هذه المقدمة الطويلة لها ما يبررها، فحديثنا عن النقد المعماري غالباً ما يسحبنا إلى مساحات من الجدل حول جدوى النقد وأهميته وهل له دور فعلي في تغيير وتحسين العمارة، أم أن هذا النقد على وجد الخصوص تحيط به محاذير كثيرة أولها وأهمها تضارب المصالح التي تنشأ عن نقد المنتج المعماري. لنتحدث عن النقد قبل الحديث عن حساسيته فثمة جدل المكان: المطلق والخاص، وعلاقة عمارة أي مدينة بتطور الأمكنة نفسها بدلاً من التركيز على المباني المنفردة أو نقد الفضاء العام دون فهم أسباب ونشأة تطور هذه الأمكنة. لذلك تطور منهج "نقد المحتوى المكاني للعمارة" Architectural Contextual Critique بدلاً من التركيز على المباني المنفردة ليمثل توجهاً أكثر شمولية. في واقع الأمر أن النقد المعماري يتقاطع مع سلسلة من متخذي القرار والمهنيين المستفيدين مباشرة من العمل المعماري وبالتالي فإن الصدام الذي يحدثه النقد المعماري يجعل الكثير من المهتمين يحجمون عنه ويدفعهم إلى دراسات عامة، أكاديمية وشبه أكاديمية، منفصلة عن الواقع الآني.

أحد أكثر الفروقات وضوحاً فيما يطرح حول "الشفافية المعمارية" في كثير من المجتمعات هو وجود استقلالية تامة للنقاد المعماريين في الصحافة في كثير من الدول الغربية على عكس الصحافة العربية، وغالباً ما تهتم تلك الصحف بوجود متخصصين في النقد العمراني والمعماري، وتشكل آراء هؤلاء ثقلاً في توجيه القرارات. يفترض أن يكون النقد هو مرآة الناس لتحديد شكل مدينتهم، فإذا اختفى الصوت الموجه للمنتج المعماري سارت المدينة في دروب عشوائية، أو هكذا يفترض. إذاً ثمة اتفاق بين المتخصصين العرب أن المدينة العربية المعاصرة لا تعبر عن هوية ساكنيها كونها تفتقر إلى مرآة النقد التي تمثل الجسر الذي يفترض أن يربط بين الناس وبين مدينتهم. وإذا ما اعتبرنا أن هذه النتيجة هي مؤشر طبيعي لتراجع الكثير من المظاهر الحضارية في الحياة العربية المعاصرة، إذا فمن المتوقع أن المدينة ستظل في حالة ابتعاد مستمر عمن يسكنها في المستقبل القريب.

مأزق النقد المعماري في المنطقة العربية لم ينتج فقط عن الغياب الكبير لمناهج النقد في مدارس العمارة العربية، بل كذلك لغياب الوعي الإعلامي المعماري، فلا يوجد فعلياً إعلام في مجال العمارة والعمران، وإن وجد فهو فقير في محتواه النقدي ولا يتصف بالشجاعة الكافية، فلا يوجد نقد دون جرأة. ويمكن أن نذكر كذلك تأثير الواقع السياسي الذي لا يسمح بالشفافية المعمارية ويحد من المكاشفة والمصارحة حتى على مستوى المنتج المعماري لأن هذا المنتج هو نتيجة لسلسلة من القرارات. وحتى يتغير هذا الواقع لا ينتظر أحد خلق هوية معمارية وعمرانية في مدننا.