لم تبن روسيا هذه القدرات إلا من أجل أن تستخدمها بالفعل في ساحات المعارك عندما تجد نفسها أمام وضع يُملي عليها التعرض للهزيمة.

والهزيمة تجسدت بكامل قامتها الفارعة، عندما عجزت الدبابات الروسية عن دخول كييف، بل وعندما ظلت تعاني الفشل في الاستيلاء على مدن رئيسية على امتداد شهرين من الحرب.

التقديرات السابقة، ومنها تقديرات كاتب هذه السطور، التي كانت تقول “إن روسيا قبلت الهزيمة من قبل، ويمكن أن تقبلها من بعد” في إشارة إلى أفغانستان، سوف يثبت أنها تقديرات خاطئة.

لو كانت روسيا تنظر إلى أفغانستان نظرتها إلى أوكرانيا، فإنها لم تكن لتتردد في استخدام أسلحة نووية “تكتيكية” على الإطلاق.

أفغانستان لم تكن شأنا “وجوديا”، كما يحاول بوتين تصوير الأمر الآن بالنسبة إلى أوكرانيا. والمعركة الرئيسية هناك، إنما كانت معركة دفاع عن حكومة موالية داخل كابول، ولم تكن المناطق الريفية الأفغانية لتعني الكثير من الناحية العسكرية لكي يجوز قصفها بأسلحة من ذلك النوع.

يروق للرئيس بوتين أن يلوح بالنووي، “بمناسبة ومن دون مناسبة”. هذا ما يبدو في الظاهر. إلا أنه يعنيه دائما. ويدرك سبب الحاجة إليه. فقواته، كما اعترف بنفسه، قبل أن يبدأ الحشد ضد أوكرانيا، لا تقوى على مواجهة قوة الحلف الأطلسي التقليدية، وأشفع ذلك بالقول “ولكننا نملك أسلحة نووية متطورة أكثر مما تملكه كل الدول الأخرى”. وفي الواقع، فهو يعرف أيضا أن قواته، من الناحية التكنولوجية، لا تعدو كونها قوات عسكرية مهلهلة من عصور ما قبل التاريخ، نسبيا.

ساعة الحقيقة سوف تأتي بالنسبة إلى الغرب، بين أن يدافع عن أوكرانيا، بخوض حرب نووية ضد روسيا، وبين أن يقبل عرض وقف إطلاق النار، مكتفيا باستمرار العقوبات الاقتصادية

أحد أبرز الأمثلة، أجهزة الاتصالات داخل الدبابات الروسية التي يمكن لبعض السخرية القول إنها تعود إلى عصر ما قبل اختراع الكهرباء. وهو ما سمح للقوات الأوكرانية، ومن يساعدها، على التقاط المكالمات بين الوحدات العسكرية الروسية، مما سهل اصطيادها. حتى تعرضت الآلاف من الدبابات الروسية إلى “مجزرة” لم يسبق لأي قوة عسكرية أن تعرضت لها في غضون وقت قصير، كالوقت الذي أمضته طوابيرها وهي لا تملك بنزينا يكفي للتقدم، وجنودها لا يملكون طعاما كافيا ليأكلوا، دع عنك أن يحاربوا. وعندما اكتشف الضباط الروس سبب المأساة، صاروا يستخدمون هواتفهم النقالة، كمن يستجير من الرمضاء بالنار. فزاد عليهم البلاء ولم ينقص.

المغزى الوحيد من ذلك، هو أن روسيا لا تملك قوات تقليدية قادرة على الصمود في وجه أي قوة مجهزة تجهيزا حديثا. ما يجعل التلويح باستخدام الأسلحة النووية هو الخيار الوحيد أمامها. الوحيد فعلا.

بوتين يؤمن تماما بأنه إذا أصبحت الحرب شيئا لا مفر منه، فإنه هو من يجب أن يضرب الضربة الأولى. هذا ما فعله في أوكرانيا من الأساس. فهو أعد عدته، ووضع جيشه على أبواب أوكرانيا، بينما كان يقول لنظرائه الغربيين إنه “لا ينوي مهاجمة أوكرانيا، وأن جيشه يجري تدريبات فقط”، ولكن لم يمض يومان حتى بدأ الهجوم فعلا، لكي يكسب عنصر “المباغتة”.

صحيح أن هذا العنصر، ثبت أنه قليل الفائدة، إلا أن “المباغتة” النووية شيء آخر قطعا.

العقيدة النووية الروسية كما جسدها بوتين في خطاب أمام مجلس الدوما الروسي في مارس 2018 تقول “إن روسيا تحتفظ بحق استخدام الأسلحة النووية فقط ردا على هجوم نووي، أو هجوم بأسلحة دمار شامل أخرى ضد البلاد أو حلفائها، أو عمل عدواني ضدنا باستخدام الأسلحة التقليدية التي تهدد وجود الدولة ذاته. وعلى هذا النحو، أرى أن من واجبي أن أعلن ما يلي: إن أي استخدام للأسلحة النووية ضد روسيا أو حلفائها، سواء بأسلحة قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى، سيعدّ هجوما نوويا علينا، وسيكون الانتقام فوريا، مع كل ما يصاحب ذلك من عواقب. وينبغي ألا يكون هناك شك في ذلك على الإطلاق”.

وفي الثالث والعشرين من مارس الماضي، أعاد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف تأكيد هذه العقيدة، إنما بعد تجريدها من عنصر “الرد” على ضربة نووية، لتقتصر على مفهوم هجومي، استباقي، وأكثر مرونة. وقال لشبكة “سي.أن.أن” الأميركية “لدينا مفهوم للأمن الداخلي، وهو علني. يمكنكم قراءة كل الأسباب التي تدفع إلى استخدام الأسلحة النووية. لذلك إذا كان هناك تهديد وجودي لبلدنا، فيمكن استخدامها وفقا لمفهومنا”.

“التهديد الوجودي” وفقا للمفهوم الروسي، لا يشبه بالضرورة أي تصور آخر عنه. أي شيء يمكن أن يُنظر إليه على أنه “تهديد وجودي” في موسكو، بما في ذلك الهزيمة العسكرية في أوكرانيا أو الوقوع ضحية لحرب استنزاف طويلة الأمد، وهي ما يراهن عليها الحلفاء الغربيون الآن.

صديق بوتين الحميم، دكتاتور بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، الذي يؤكد أنه يعرف صاحبه أكثر من أي أحد، قال بعد أيام من اندلاع الحرب، إن على الرئيس زيلينسكي أن يرضخ لمطالب بوتين قبل فوات الأوان. وأضاف “إذا رفض زيلينسكي هذا الطلب، فسيضطر للتوقيع على اتفاقية استسلام خلال فترة قصيرة، فروسيا لن تخسر هذه الحرب… كيف تنتهي الحرب حين يفوز بها طرف واحد؟ اليابان تعرف الجواب أكثر مني”.

والجواب واضح. وهو أن تقع أوكرانيا ضحية لضربة نووية مماثلة.