فى لقطة رائعة، شاهدنا على المسرح تكريم كل من حسين فهمى ومحمد حفظى معًا فى حفل توزيع جوائز السينما العربية الذى أقامه الباحث السينمائى علاء كركوتى.

قال علاء مداعبًا وهو يشير إلى محمد حفظى وحسين فهمى: (الجيل القديم حفظى يسلم الراية للجيل الجديد فهمى)، ولا يزال فى الحقيقة حسين فهمى محتفظا بمرونته وحيويته وشبابه.. حرص هو ومدير المهرجان أمير رمسيس ومدير المكتب الفنى أندرو محسن على عقد لقاءات متعددة للاتفاق على عرض عدد من أهم أفلام (كان) بالقاهرة وأيضا اختيار لجان التحكيم.

المهرجان الأعرق والأهم مصريًا (القاهرة)، الذى انطلق عام 1976. يعتبر (كان) نقطة الوهج، وطوال تاريخه يحرص على أن يعلن عن حضوره من هناك، وهو مشهد متكرر أتابعه وشاهدته على الأقل على مدى 30 عاما مع تعاقب رؤساء المهرجان.. ملحوظة: أنا لا أقيم الموقف إيجابا أو سلبا، فقط أوثق ما كان يحدث فى الماضى ولا يزال.

تتتابع العروض فى المسابقة الرسمية، التى تمتاز وبنسبة كبيرة بالتنوع والقوة مع نهاية زمن الاحتراز الذى اغتال المهرجانات. روح المهرجان - أى مهرجان - هى التزاحم، بينما مواجهة كورونا تبدأ بإلغاء التزاحم.. هذا العام شهد تزاحما غير مسبوق حتى قبل زمن (كورونا).

وأتوقف هذه المرة أمام الفيلم الأمريكى (زمن هارمجدون) للمخرج الأشهر جيمس جراى، الاسم له دلالة تاريخية فى الأديان، وخاصة اليهودية، مع اختلاف قطعًا التفسير، أنه زمن متخيل للتلاشى والظلام، والإشارة فى نفس الوقت إلى زمن قادم للعدالة الغائبة، وفى التوراة (العهد القديم) كثير من الحكايات المتعلقة بتلك الواقعة المتخيلة.

فى تاريخنا المعاصر، فإن شخصية اليهودى مهاجرة بعد الحرب العالمية الثانية، تظل تحمل ظلالا من هذا التاريخ. عدد من المخرجين تناوشه وتسيطر عليه بين الحين والآخر أحلام الطفولة، مثل جيمس جراى.. ولدينا فى مصر مثلا يوسف شاهين أكثر المخرجين الذين تركت الطفولة الكثير من ومضاتها على أشرطتهم السينمائية منذ (إسكندرية ليه)، ولدينا أيضا نموذج تونسى واضح ومباشر مثل فريد بوغدير و(عصفور السطح)، ومحمد ملص من سوريا (أحلام المدينة).

معادلة بناء السيناريو قائمة على الخاص الذى لا يخلو من عمق تاريخى عام، كثيرا ما يلجأ المخرج إلى هذا القانون فى التتابع، وتبقى دائما العائلة مكونا رئيسيا لتلك الظلال، وهكذا قدم مخرج الفيلم جيمس جراى تلك اللمحات بتلامسٍ ما مع السيرة الشخصية للمخرج فى علاقته مع العائلة والمجتمع المحيط به، ويقدم صرامة الأب فى توجيه العقاب القاسى إلى الطفل بضربه بكل قسوة ولا يستجيب لصرخاته بينما نلحظ حيادية الأم، الوجه الآخر من الصورة حنان ودفء الجد (أنتونى هوبكنز) عملاق التمثيل الذى ترك بصمة على هذا الطفل، وحضوره أيضا منح الفيلم ألقًا خاصًا، وبالطبع جيمس جراى لا يقدم سيرته الشخصية بقدر ما يعبر عن درجة ما من الصدق فى التناول بعيدا عن صحتها فى سيرة حياة المخرج أم لا، إنها واقعية التاريخ وليس توثيق التاريخ، كثيرًا ما نجد مساحة ما من الاختلاف بين الوثيقة والتاريخ.

الفيلم ينتمى لعالم المخرج بكل تفاصيله، يقدمه بقدر ملحوظ من التلقائية فى التتابع، جيمس جراى هو أيضا كاتب السيناريو، يسند أدوار البطولة إلى وان هاثاواى وجيرمى سترونج مع أنتونى هوبكنز، بينما الأهم كمساحة درامية الطفلان بانكس ريبيتا الذى يحاكى طفولة مخرج الفيلم، وصديقه الأسمر جالين ويب.. البراءة تغلف تلك العلاقة، والتلقائية فى الأداء هى المفتاح، الأجيال الثلاثة حاضرة «الابن والأب والحفيد»، العلاقة تبدو عادية على السطح إلا أنها سياسية من الطراز الأول فى العمق، ولهذا يشير إلى عائلة ترامب، عندما ينتقل الطفل اليهودى إلى مدرسة أخرى تؤهل من يلتحق بها ليصبح قائدا، يلتقى هناك مع ترامب الطفل، فى نفس الوقت نجد العائلة حريصة على إبعاده عن الخطر الذى يشكله اقترابه من الصبى الأسمر، فهو يُقدم على كل شىء من تعاطى المخدرات إلى سرقة الأجهزة من المحال.. التاريخ بتفاصيل عقد الثمانينيات حاضر بقوة، وفى نفس الوقت بدون مباشرة.. وهذه هى اللمسة السحرية التى تفرق بين مبدع وآخر، أن تقول كل التفاصيل دون أن تبدو أنك تتعمد قولها.

الفيلم يروى زمن الثمانينيات حقبة الرئيس ريجان تحديدا.. هل مواجهة التفرقة العنصرية مجرد قانون يطبق بصرامة محققا المساواة بين الجميع أم أنها قناعات خاصة لا يستطيع أن يواجهها قانون مهما أحطناه بسور من العقوبات؟.. الأهم هو أن ننتزع العنصرية من العمق، وتلك كانت ولا تزال هى المشكلة فى العديد من أوجه الحياة، لدينا الكثير من القوانين التى تواجه انحرافًا ما فى المجتمع، إلا أنها تصطدم فى نهاية الأمر بقناعة راسخة عند البعض، ولهذا لا يتم تجريمها نفسيًا، تمامًا مثل عنصرية اللون مجرّمة ولكن لا يزال لها عند البعض حضورها.

الحياة والموت، أو بداية الحياة المتمثلة فى الصبى وأفول الحياة التى يعبر عنها الجد أنتونى هوبكنز، هناك دائما إرهاصات يستشعرها المتفرج لاقتراب رحلة الموت، أنت كمشاهد تتوقع رحيل الجد، إلا أن تلك العلاقة الدافئة مع الحفيد ستترك ولا شك بصمتها عليه، حتى إنه يطلب رؤيته قبل الرحيل ممسكًا بيده.. وهكذا نرى هذه الخصوصية، عندما يحاوره متخيلا وجوده فى حجرته، ولا يتكرر كثيرا هذا الحوار لأننا بصدد شخصية سوية، تعيش وتدرك الواقع، ولكنها فقط مرة واحدة تقدم لنا دلالة عملية على التوحد.

العلاقة مع الصديق الأسمر هى اللمحة التى تضرب بقوة كل أحاديث المساواة، رغم إقرار الصبى الأبيض أنه المخطط لجريمة السرقة، فى محاولة منه لإنقاذ صديقه.. إلا أنه ينجو تماما لتواطؤ رجال الشرطة ويُدان فقط الصبى الأسمر.

إنه زمن التلاشى والفناء، ويعقبه زمن النقاء، والفيلم يقول إنها مجرد أضغاث أحلام، فلا وجود لزمن النقاء.

(زمن هارمجدون) حتى كتابة هذه السطور هو الأوفر حظًا للحصول على أكثر من جائزة عند إعلانها مساء السبت القادم!!.