مما لا شك فيه أن استقرار الدول وتفوقها وجودة إنتاجها ورقيها بين الأمم يعود لذلك الاستقرار على مستوى الشعور الداخلي للفرد، فهو الحافز الأول لكل ما ينتجه، ولذلك فإن الدول المتقدمة كانت تعمل على إتاحة كل الفرص في محاولة منها لاستقرار الأبعاد النفسية لمواطنيها. وذلك ليس ببعيد عن دور المملكة في مداومة الالتفات إلى محاولة إصدار قرارات أو تسهيلات أو إعفاءات أو منح وفتح كل منافذ الترفيه، ذلك لأنها تعلم كيف يؤثر ذلك على المداومة والجد وحتى المنافسة، في طريق طويل -لكنه ليس ببعيد- في هذه النهضة الحديثة التي تحياها ويحياها مواطنوها، على الرغم مما يعتري العالم من هزات اقتصادية وسياسية وحتى اجتماعية.

ولذلك كان الاهتمام بالاستقرار النفسي هو أحد محركات هذا الإنتاج. وقد كان السؤال الملح دائماً هو: كيف نرفع مستوى الإنتاج؟ وكيف نبدع؟ وكيف نتفوق؟ وكيف نوثق إبداعنا في ظل أي ضغوط نفسية أياً كان نوعها؟!

كلها أسئلة قد تبدو سهلة أو عابرة أو كلاماً على طاولة الكتابة وفي قاعات الاجتماعات وإصدار التوصيات! لكنها في حقيقة الأمر تشكل في مجملها تلك العصا في عجلة الريادة بين الدول، حال عدم تنفيذها. فلكل منا طموح، وكذا الدولة، ولكل منا أمنيات، وكذلك المؤسسات، وكل منا له أهداف، وكذلك الإستراتيجيات، لكن جلها لا بد أن يرتكز على مدى الاستقرار النفسي للفرد.

إن في عصرنا هذا، ومع التقدم العلمي والتكنولوجي وتوسع آفاق المعرفة يموج الفرد في بحر معرفي لا يعرف كنهه سوى أولئك الذين يعرفون كيف ينتزعون النجاح المنثور على أطراف الشوك أو على قليل الحيلة والتدبر! فلم يعد النجاح سهلاً، ولم يعد التحقق سهلاً، ولم يعد احتواء المعرفة سهلاً، بل لم يعد الثبات على القيَّم أيضاً سهلاً. مما يسوق البعض إلى ما يسمى في علوم الطب النفسي بـ(الاعتلال النفسي) في أغلب الأحيان!

ولذلك فإن ما نراه من توتر ومن حروب ومن أزمات اقتصادية عالمية قد لا ندرك مدى تأثيره على الإنتاج العالمي، والذي يظهر أثره على المحلي والإقليمي أيضاً، فالحروب وما لتأثيرها على مستوى الاستقرار النفسي هو ما تصرخ منه أغلب الدول الآن، فالجذر الأساس لهذه الأزمات ليس في عجلة المنتَج فحسب بل في استقرار وصحة نفسية من يحركها، فالمحرك الأول هو الفرد قبل المؤسسة، ولهذا كنا نرى الدول الكبرى ومؤسساتها الكبيرة كيف تقوم كل مؤسسة بدراسة الصحة النفسية لأفرادها بشكل علمي، وكذلك دراسة مدى العلاقة بين العامل ورئيسه، وبين الأفراد وبعضهم، حتى يصل الأمر إلى دراسة مشكلاتهم خارج نطاق العمل، والعمل على حلها لضمان الاستقرار النفسي للعاملين للوصول إلى ضمان الجودة في الإنتاج، ومتعة العمل أهم محاورها، وهو أمر في منتهى الأهمية، ذلك أن الاعتلال النفسي يسوقنا في نهاية المطاف إلى تدني مستوى الإنتاج، وقد يصل الأمر إلى الاعتلال الجسدي، فتقول سوسن شاكر مجيد في كتابها «الصحة النفسیة وأنواع الأمراض النفسیة»: «عرّفت منظمة الصحة العالمیة الصحة بشكل عام بأنها حالة من العافیة الجسدیة والنفسیة والاجتماعیة، ولیست حالة عدم وجود مرض أو ضعف فقط. وهذا یدل على أن الصحة النفسیة تعتبر أمراً ضروریاً للتمتع بالصحة بشكل عام. وتُعرّف الصحة النفسیة بأنها حالة من العافیة یدرك الفرد من خلالها قدراته، ویستطیع أن یتكیف مع الضغوطات الطبیعیة في الحیاة وأن یعمل بشكل منتج ومثمر، كما یكون قادراً من خلالها على المساهمة في مجتمعه».

وفي ضوء كل ذلك تتولد وتتفشى لدينا هذه الأمراض النفسية ابتداء بالقلق وانتهاءً بالذهان والعصاب.

قد لا ندرك بأن الاعتلال النفسي أصبح أزمة العصر التي تحاصرنا ونحن لا نعلم، فالقلق والتوتر وصداع العصر والاكتئاب بمختلف مستوياته متداول بيننا كالرشح أو الإنفلونزا، دون التنبه إلى خطورة النتائج على العمل والإنتاج والاستقرار الأسري، إذ لا بد أن ندرك أن الصحة النفسية أمر مهم جداً لكل نجاح وتفوق وتقدم وكذلك الإنتاج.

إن الإشكالية الكبيرة أن كلاً منا حين تُذكر أمامه الصحة النفسية أو الطبيب النفسي تعَّوذ من ذلك مخفياً ما يعانيه، وإن ذهب لطبيب نفسي ذهب إليه سراً وعلى خجل!

فهل هذا نقص فينا أم نقص في أدواتنا المعرفية؟ أم حصار اجتماعي لهذا المفهوم؟! وأعتقد بأن الأخير هو الجوهر. ويذكر الدكتور عادل كراني المدير الطبي بالمركز الأميركي النفسي والعصبي أن «بعض الإحصائيات تشير إلى أن نسبة المصابين بالاكتئاب تتراوح بين 12 و 20 في المئة وأن هناك 5 في المئة مصابون بالتوتر والقلق».

هذه نسبة كبيرة مفادها أن ذلك سيؤثر على الإنتاج والتفوق والطموحات وعلى الإبداع في أي مجال كان، ونحن نتطلع إلى الانطلاقات في الفضاءات الرحبة والافتكاك من أغلال الفقر والجهل والمرض، فما نراه من عنف وإرهاب وتدنٍ في مستوى التفكير وعدم اتساع أفق الرؤى، ما هو إلا نتاج للاعتلال النفسي في بداية الأمر، والبحث الدائم واللاهث عن الذات دون هوادة ومن دون تحقّق؛ فتضيع الذات في المفازة ويستغل دعاة الفكر المتطرف ذلك البحث عن الجنة المفقودة التي لا تأتي إلا بالانتحار، ونعتقد بأن سلوك هولاء الانتحاريين ما هو إلا بحث عن الخلاص مما يعانونه من اعتلال نفسي في بداية الأمر!

ومن هنا نستطيع القول: إن المملكة العربية السعودية قد تنبهت لهذا الأمر واتخذته في مجمل إستراتيجيتها، وذلك بتسليط الضوء على أهمية الاستقرار النفسي للأفراد والعاملين، على الرغم من تفشي الغلاء في العالم كله، فوضعت استراتيجيات لذلك بالتوازي مع استراتيجيات الإنتاج والتطوير لكي تتحقق الرؤية.