كلما زاد تركيزي على الحرب المستعرة في أوروبا حاليا هالني المستقبل الذي ينتظرنا كبشر. وتركيزي ينصب على تحليل معمق للنصوص التي يقع ناظري عليها في أمهات الصحف الغربية، والأمريكية والبريطانية خصوصا، وفي الأغلب فإنني آتي إلى المحصلة في نهاية كتاباتي، إلا أنني هنا أقدم النتيجة للقارئ مباشرة وأظن أني سألقى كثيرا من التوافق والإيجاب.
يبدو لي أن عملية إعمال العقل قد جرى تعطيلها في الغرب، وإلا كيف لحرب ضروس يعانيها وتبعاتها العالم برمته تدخل شهرها الرابع دون أن يكون هناك ضوء أخضر في نهاية نفقها المظلم.
دول كنا حتى وقت قريب نشهد لها بإعمال العقل، حيث تلقن المدارس تلامذتها علوم الجدل والمناظرة والحوار والمنطق، وتتربى الأجيال على أن الدبلوماسية والأخذ والعطاء وقبول الرأي الآخر واحترامه وأخذه في الحسبان من المهمات الإنسانية الأساسية، تراها اليوم تفعل كل شيء تقريبا غير التحكيم إلى العقل.
ومصادفة نراها تغوص حتى ركبتيها في حرب تثير الرعب في النفوس حتى إن كانت النفوس على مبعدة من ساحة معركتها. ورغم الألم الذي تحدثه والواقع المخيف الناتج عن نقص حاد في توريد السلع الأساسية وأن عدم إيقافها قد يؤدي إلى مجاعة كبيرة في العالم، صوت العقل لا يزال غائبا ويغشاه صوت التهديد والوعيد وتكديس السلاح والعتاد ودعم المحاور والتهيؤ لقتال أشد مرارة.
والنار مستعرة، ما زلنا نسمع تهديدات من أطراف عديدة ضد بعضها بعضا منذرة من "عدم اللعب بالنار" وكأن النار والرماد الذي تخلفه لم يعد محسوسا، أو صار ذكرى منسية.
ومفردة "فكر" think بالإنجليزية من أكثر المفردات تداولا في الحديث. وإن فكرنا، أي أعملنا عقلنا، لا بد أن نتمكن من حلحلة الأمور والمشكلات. وفي كل ما يحدث ومع خطورة العواقب التي أصبح بعضها واقعا صرنا نعيشه، من النادر أن نلحظ إثارة أسئلة تبدأ بـ "لماذا" وإن حاول امرؤ إثارة أسئلة مثل هذه، واجه الصمت المطبق أو جوابا غايته تعطيل العقل من خلال القول: "إن السؤال خارج السياق، بمعنى عديم الصلة بالموضوع أي irrelevant.
وأحس أن هناك خشية من تقديم تفسير خارج إطار التفسير العام لما يقع في أوروبا حاليا والذي ما هو إلا حرب عالمية ثالثة ناقص استخدام أسلحة الدمار الشامل والنووية منها خصوصا وهذا حتى الآن. الكل يحارب حتى "النصر"، وليس هناك من يشرح لنا "النصر" الذي يريدونه. وإن تحدثوا عن إيقاف نزيف الحرب المدمرة هذه، كرروا شروطهم التعجيزية، وإن سألتهم "لماذا"؟ كرروا لازمة أن السؤال irrelevant.
وهناك اجترار لنصوص ومفردات وجمل لدرجة الممل، عند التحدث عن المسارات المستقبلية للحرب.
غريب أمر هؤلاء الناس وأنت تلحظ كيف أنهم يؤخرون العقل ويقدمون النص وأطره التي في الواقع ما هي إلا نصوص مجردة لا معنى لها، مثل: المجتمع الدولي، العالم كله، حرب استباقية، المصالح الاستراتيجية، القانون الدولي، حقوق الإنسان، العدالة، وغيرها من العبارات الطنانة.
يحمل الله الإنسان على أن يتعقل، وفي الإسلام مثلا يعد إعمال العقل واجبا ربانيا يرد في الذكر الحكيم مرات عديدة: "أفلا تعقلون"، "لعلكم تعقلون"، "إن كنتم تعقلون"، "أفلم تكونوا تعقلون"، "قوم لا يعقلون"، "فهم لا يعقلون"، "لقوم يعقلون"، "بأنهم قوم لا يعقلون"، "الذين لا يعقلون"... .
وكل أمة تغادر عملية إشغال العقل، أي: محاولة التعامل بإيجابية مع أي سؤال يبدأ بـ "لماذا"، تخسر عافية تحكيم العقل وتكون خسارتها عظيمة، وهذا ما أخشى أن يحدث للغرب وأوروبا خصوصا نتيجة للحرب الدائرة فيها.
من خلال قراءتي لمسيرة التاريخين العربي والإسلامي، أرى أن ضياع الأندلس مثلا وبغداد أيضا كان سببه الرئيس عدم إشغال العقل، بعد قرون من الازدهار والحضارة التي كان نبراسها تأهيل العقل والمنطق وسيادة الجدل والمناظرة والحوار.
وأزيد قرائي الكرام معرفة وأقول إن علوم المنطق وعلوم الجدل والحوار والمناقشة كانت من المقررات الأساسية في المدارس والجامعات في بغداد والأندلس في العصور التي سادها التنوير والتمدن.
ما ألاحظه حاليا، ومن خلال قراءتي الشخصية وتحليلي للنصوص التي ترافق هذه الحرب، هو أنه ليست هناك مهادنة إن كان في تسعير أوار المعارك أم في القرار والتصميم على الذهاب إلى أقصى حد مهما كانت العواقب.
والحروب في عواقبها وحرب أوروبا الحالية في نظري عاقبتها مريرة وغير حميدة ودليل ذلك تشغيل السلاح وتعطيل العقل في محيط بنى ثقافته المعاصرة وتمدنه على الجدلية الديكارتية التي تربط الوجود بالتفكير أي العقل: "أنا أفكر إذن أنا موجود". وإن لم أفكر، إذن أنا غير موجود، هذا استنادا إلى أشهر مقولة لكبير فلاسفة الغرب.