لا تزال الأوضاع في ليبيا بحاجة إلى جهود جدية لتجاوز أزمة الحكم والصراع على الثروة. اليوم، وقبل أسبوعين من انتهاء الأجل القانوني للمرحلة الانتقالية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي، لا شيء يدل على أن حلّا سياسيا في طريقه إلى التبلور. أما الانتخابات التي كان رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة يزعم أنها ستنتظم في يونيو الجاري فقد تبيّن أنها مجرد وهم لا يخرج عن سياق سياسة الضحك على الذقون التي تمارس ضد إرادة الشعب الليبي من قبل العواصم الغربية المؤثرة ومن ورائها البعثة الأممية، بالتواطؤ المفضوح مع قوى إقليمية وأخرى داخلية يمثّلها اليوم بشكل سافر السيد الدبيبة وفريقه الناشط على أكثر من صعيد.

ولا يزال النفط الليبي في جانب كبير منه ممنوعا من الإنتاج والتصدير، وهو ما يضيّع على الدولة مداخيل يومية مهمة في ظل ارتفاع أسعار الطاقة بالأسواق العالمية نتيجة الوضع في أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو. في منتصف أبريل الماضي قام ناشطون قبليون بإغلاق عدد من الحقول والموانئ في جنوب وشرق البلاد كنوع من رد الفعل على سياسات السيد الدبيبة الذي غيّر سلطته من حكومة الوحدة الوطنية إلى حكومة الانقسام الوطني بالبحث عن أقرب المسافات لاستفزاز القيادة العامة للجيش في بنغازي والشركاء الأساسيين في الحكم بالمنطقتين الشرقية والجنوبية وفق مخرجات ملتقى الحوار السياسي، وكان هدفه من ذلك نيل دعم أمراء الحرب وقادة الميليشيات والزعامات الجهوية والمناطقية وتيار الإسلام السياسي والثوريين الراديكاليين وشبكات الفساد المراهنة على استمرار وضعية اللادولة، والاعتماد عليهم في التمسك بشرعية مزعومة يبرّر بها دكتاتوريته الناشئة.

لن يعود النفط إلى التدفق في مناطق الإغلاق إلا بعد التوصل إلى الاتفاق على آلية توزيع العائدات بين الأقاليم الثلاثة، وهو ما وافقت عليه واشنطن كدولة تحاول أن تمسك بجميع جوانب الملف الليبي، وكذلك بعثة الأمم المتحدة التي أصبحت مواقفها صدى للمواقف الأميركية، وقد تم التأكيد على ذلك من قبل أطراف عدة من بينها السفير ريتشارد نورلاند بعد لقائه الأخير في القاهرة مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح.

في الأثناء أعلن رسميا عن مباشرة حكومة الاستقرار، المنبثقة عن مجلس النواب والحائزة على ثقته في مطلع مارس الماضي، مهامها من سرت، وسط البلاد، وهي أقرب المدن الخاضعة لنفوذ الجيش الوطني إلى العاصمة طرابلس، وتمثّل رمزا تاريخيا لوحدة الليبيين حتى قبل ظهور اسم ليبيا في منتصف الثلاثينات وتأسيس الدولة الوطنية في بداية خمسينات القرن الماضي. وبعد أيام سيعقد مجلس النواب جلسة عامة في المدينة يصدّق خلالها على ميزانية الدولة للعام 2022 كما تقدمت بها الحكومة المعتمدة، ورغم أن الحكومة المنتهية ولايتها تستعمل كل الإمكانيات المتاحة لمنع النصاب من الاكتمال، إلا أن مسألة الانقسام أصبحت أمرا واقعا بإصرار الدبيبة على رفض التداول السلمي على الحكم وتسليم مقاليد السلطة لفتحي باشاغا.

والثلاثاء الماضي رأى البعض أن الدبيبة وضع يده على جميع المؤسسات السيادية، لكن عقيلة صالح كان يدرك أن رفض رؤساء تلك المؤسسات تلبية دعوته لحضور اجتماع سرت تقف وراءه قوى خارجية لم يعد خافيا أنها المديرة الفعلية للمؤسسات السيادية التي امتنع رؤساؤها عن الاتجاه إلى سرت لملاقاة رئيس البرلمان، ولكنهم في المقابل تسابقوا إلى تلبية دعوة السفير الأميركي في تونس.

وبرفض محافظ المصرف المركزي الصدّيق الكبير ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله ورئيس هيئة الرقابة الإدارية سليمان الشنطي ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك الحضور إلى اجتماع سرت يكونون قد فسحوا الطريق أمام مرحلة جديدة من الانقسام المؤسساتي، على غرار ما عرفته البلاد بعد الانقلاب الإخواني الميليشياوي على نتائج انتخابات يونيو 2014 التشريعية، والذي استمر حتى مارس 2021 عندما تم تكريس وهم التوحيد بواسطة حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت في ظروف محفوفة بوقائع الفساد الموثقة من تونس إلى جنيف.

جاءت الحكومة الجديدة كمحاولة أخيرة من أجل طي صفحة الانقسام وإعلان المصالحة الوطنية تمهيدا لانتخابات حرة وديمقراطية. علينا أن نتذكر أن رئيسها فتحي باشاغا كان من أشد الخصوم عداوة سواء لمجلس النواب المنعقد في طرابلس أو لقيادة الجيش في بنغازي، وهو عندما ترشح لمنصبه الحالي كان يدرك أنه مطالب بفتح نوافذ للحوار مع جميع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين في البلاد سواء تحت سقف فبراير أو سبتمبر، وكان عليه أن يتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، لكن المناهضين لفكرة ليبيا الواحدة ولمشروع المصالحة عاندوه بقوة سواء في مدينته مصراتة أو في العاصمة التي كان يمارس من داخلها مهامه كوزير للداخلية في آخر عامين من عمر حكومة الوفاق، واختاروا الاصطفاف وراء الدبيبة الذي بات ممثلا رسميا للمستفيدين من ديمومة الأزمة واستمرار الصراع في ليبيا.

اليوم بدأت الكثير من الأصوات ترتفع منادية بالعودة إلى دستور 1951 دون تعديلات 1962، أي إلى ليبيا الفيدرالية، وتحرك دعاة الانفصال للحديث عن إمكانية تقسيم البلاد محاولين بذلك الإيحاء بتوزيع جغرافي وفق مصالح قوى التجاذب الخارجية، فيما ينشط فريق الدبيبة على كل الصعد من أجل التوصل إلى هدف واحد وهو البقاء في الحكم، وهو لا يكف عن تحريض الداخل والخارج على حكومة باشاغا والجيش والبرلمان، ويتأكد عجز الأمم المتحدة وبعثتها عن إيجاد الحل المناسب نتيجة تورطها في لعبة تتعلق بمصالح الدول الأجنبية لا بمصلحة الشعب الليبي، والنتيجة أن قوى الفساد الداخلية والخارجية تجتمع على مبدأ العرقلة الممنهجة للحل السياسي بسعيها لعرقلة أي مشروع جدي لتجاوز الصراع الداخلي وإعلان التوحيد الفعلي للمؤسسات وتتويج ذلك بالمصالحة الوطنية الشاملة ثم تنظيم الانتخابات الديمقراطية التعددية النزيهة التي يمكن أن يترشح لها الجميع دون استثناء ودون حسابات من الدول واللوبيات المتصارعة على الثروة، ويقبل الجميع بنتائجها من باب الالتزام باحترام إرادة الناخبين.

وكان الدبيبة قبل أسابيع يتحدث عن انتخابات في يونيو الجاري، وها هو السفير الأميركي يتحدث عن انتخابات قد تنتظم في وقت قريب، ولكن لا شيء من ذلك سيتم، وقد يكون أقرب موعد ممكن لانتخابات تشريعية في ربيع 2023، فيما ستبقى الشرعية في مهب الريح؛ فحكومة الدبيبة فاقدة للشرعية وتعمل خارج إطار القانون، ولكنها تحظى باعتراف دولي ناتج عن عجز أممي عن فك شبكة المواجهة المفتوحة على تقاسم النفوذ الخارجي في البلاد، وحكومة باشاغا التي تحظى بشرعية برلمانية كاملة وتعبّر عن إرادة أغلب الليبيين تجد نفسها ممنوعة من دخول العاصمة لمباشرة مهامها منها.

وقد يرى البعض أنه ليست هناك جهود جدية للتوصل إلى حل سياسي في البلاد، وهذا جزء من الحقيقة، لأن هناك من الأطراف الخارجية والداخلية من تعتقد أن ضمان مصالحها يكمن في بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وأن الدبيبة قد يكون الأقدر حاليا على إدامة الأزمة مستندا إلى قوى تستفيد من غياب الدولة، وهو الذي كان مرفوضا من قبل تلك القوى باعتباره رئيسا لحكومة الوحدة، وأصبح المعبّر عنها بكل قوة بعد أن تحول إلى مجسد لحالة الانقسام السياسي والحكومي والاجتماعي.

أما حالة الانقسام فقد أصبحت خيارا لدى أطراف داخلية وخارجية إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، وذلك انطلاقا من أنها لا تقبل بوحدة وطنية قد تهدد مصالحها يوم تستعيد الدولة سيادتها والشعب إرادته، ويوم تتمكن ليبيا من حماية نفسها وتحصين مقدراتها والتصدي لبراثن الطامعين في ثرواتها وإمكاناتها السياسية والطبيعية والاقتصادية والمالية والاستراتيجية.