التضخم حديث العالم فقد وصل لمستويات غير مسبوقة منذ أربعة عقود وأسبابه عديدة أهمها الإقفال الكبير الذي جاء مع بداية تفشي جائحة كورونا قبل عامين وتوقفت فيه عجلة الإنتاج بالعديد من الأنشطة الصناعية والزراعية والخدمية ومع استعادة النمو الاقتصادي العالمي بعد حزمة من الإجراءات التحفيزية التي ضختها أغلب الدول بتريليونات من الدولارات مع فوائد شبه صفرية عاد الطلب بأعلى من العرض فارتفعت أسعار الشحن وإيجار الحاويات وكذلك لم تكن سلاسل الإمداد بالمستوى المناسب لحجم الطلب مما أثّر كثيراً على الأسعار التي أضيف لها عوامل مضاربية بأسواق السلع مع تدفق المال الرخيص، فالمضاربون ساهموا برفع الأسعار كثيراً في الأسواق الدولية وزادت الضغوط التضخمية مع الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تراجع تصدير الحبوب وكذلك الطاقة والمعادن من الدولتين اللتين لهما حصص واسعة بالسوق الدولي بهذه السلع، ورغم أن الحكومات تتخذ إجراءات لكبح التضخم من خلال السياستين النقدية والمالية إلا أن أثر هذه الإجراءات سيأخذ وقتاً ليس بالقصير خوفاً من عدم الانزلاق لركود تضخمي إذا تم تسريع خطوات رفع الفائدة وتقليص الإنفاق الرأسمالي فعوامل الخلافات السياسية بالعالم وفي أوروبا تحديداً هي المؤثر الأكبر بالتضخم وبدون حلها لن تكون للسياستين النقدية والمالية الأثر المطلوب لكبح التضخم وبناءً على ذلك قد لا يكون أمام المستهلك إلا أن يعيد النظر بإدارته لإنفاقه الاستهلاكي لما يتماشى مع ظروف المرحلة حتى يعود الإنتاج العالمي لمستويات يفوق فيها العرض الطلب لأنه هو الحل الرئيسي الطويل الأمد لتراجع التضخم.

يدفع الغرب تحديداً ثمن توجهه لمزيج طاقة غير متجانس فتقليصهم لضخ الاستثمارات بالوقود الأحفوري منذ سنوات وفق سياسات ألزموا بها شركات النفط لديهم أدى لتراجع نمو الطاقة الاحتياطية العالمية قياساً بنمو الطلب ولطالما حذَّرت دول أوبك من هذا التوجه السريع نحو الطاقة المتجددة فهي لا تحقق أمن مستدام للطاقة لأنها غير مستقرة وتتأثر بعوامل الطقس كالطاقة المتولدة من الرياح والشمس ومع عقوباتهم الواسعة على روسيا التي تعد من أكبر منتجي ومصدري النفط والغاز ارتفعت الأسعار لمستوياتها الحالية وساهمت برفع التكاليف عالمياً بالشحن وكذلك داخل دولهم بقطاعات النقل والصناعة فهم من جهة يريدون وقف استيراد الغاز والنفط من روسيا لمنع دعم مجهودها الحربي ضد أوكرانيا وبنفس الوقت يريدون انخفاضاً لأسعار الطاقة من خلال طلب زيادة إنتاج دول أوبك + فإذا تعطل جل إنتاج روسيا المعد للتصدير ومع عودة النمو القوي على النفط والغاز فإن أي ضخ إضافي من الطاقات الإنتاجية الاحتياطية بالعالم لن يكون كافياً لتهدئة الأسعار على المدى المتوسط ما لم يحل ملف الحرب الروسية الأوكرانية سياسياً وكذلك إعادة النظر بتوجهات الغرب في ملف المناخ وعودة الاستثمارات للوقود الأحفوري وكذلك خفض الضرائب على المشتقات البترولية بأسواقهم وتغيير بالأنظمة البيئية تسمح لمصافي النفط لديهم بزيادة حصصها التكريرية فآلة الإعلام الغربي وبعض كتاب الرأي لديهم وبعض سياسييهم يحاولون جاهدين تحميل أوبك + مسؤولية ارتفاع الأسعار ليتهربوا من تحميل الناخبين لهم مسؤولية أخطاءهم بأمن الطاقة بينما عند النظر للعوامل الحقيقية لارتفاع الأسعار فإنها أتت من سياساتهم كما أن النفط ارتفع 70 بالمائة منذ عام حتى التاريخ الحالي بينما الغاز ارتفع بحوالي 350 بالمائة وكذلك الفحم الحجري ولا تجد من يتحدث عنه كما يشيرون للنفط رغم تأثيره الكبير لديهم في الصناعة وتوليد الطاقة فأوبك + تحالف دول منتجة للنفط وليس لهم أي تأثير على ضبط إنتاج الغاز والفحم الحجري.

تمر الأسواق المالية بالعالم بمرحلة من التقلبات الحادة فهي بانتظار قرارات البنوك المركزية وما سيتخذ من إجراءات لكبح التضخم إلا أن ما سيحكم اتجاهها بنهاية المطاف هو الأساسيات لكل سوق ولذلك عادة ما يصاحب هذه المراحل القلق من قبل المتعاملين بالأسواق خصوصاً أصحاب المحافظ الصغيرة ممن يتجهون للمضاربات السريعة فمن المهم أن يكون تركيزهم على التحليل الأساسي وأن يتخذوا قراراتهم دون تأثير من أي قراءات تنتشر بوسائل التواصل الاجتماعي تقدمها أسماء مستعارة وتقتصر على نوع واحد من التحليل دون النظر للعوامل الأخرى المؤثرة كما يفترض بالمستثمر أن يميز بين الأسواق لكل دولة بحسب وضعها الاقتصادي وكذلك يفترض أن ينظر بتفصيل للقطاعات المدرجة للتفضيل بين أعلاها نمواً والعوامل التي تدعمه وعدم التأثر بلون الشاشة بهذه المرحلة بل النظر للمستقبل حتى يتخذ قراراه الصحيح.

ما يمر به عالمنا اليوم من أزمات مركبة قد لا يكون مسبوقاً من حيث تزامنها مع بعضها ما بين أزمات صحية وسياسية واقتصادية ومخاطر تهدد بعض الدول الفقيرة بحدوث مجاعة لديها فهذه الأزمات كانت المحاسب الكبير الذي كشف ثغرات عديدة بالاقتصاد العالمي وبعلاقات الدول مع بعضها والدور المحدود للمنظمات الدولية وكذلك على صعيد الأفراد فهي تقدم لهم دروس وفرص بذات الوقت و ترفع من مستوى الوعي لديهم بما يعود بالنفع عليهم بتخطيطهم لاستثماراتهم وإنفاقهم الاستهلاكي.