لا تكفي اللبنانيين انقساماتهم التقليدية الكثيرة حتى جاءت مسألة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لتفاقم من هذا الانقسام. فإسرائيل وضعت السفينة اليونانية في منطقة قريبة مما يسميه لبنان خط التفاوض رقم 29. وهذا أثار خوف اللبنانيين من أن تستولي إسرائيل على جزء من الثروة النفطية والغاز الطبيعي اللذين يمكن أن يكونا موجودين ضمن حوض يصل الى المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة.
مع ذلك لم يدفع هذا الحكومة اللبنانية الى تعديل الرسالة التي أودعتها الأمم المتحدة والتي تعتبر الخط 21 هو خط الحدود فيما خط 29 هو خط التفاوض.

وما بين الخطين الرسمي والتفاوضي دخل اللبنانيون كعادتهم في معركة الانقسام على الرغم من أن الموضوع وطني بامتياز بمعزل عن الخط الذي يجب أن تتبناه الحكومة اللبنانية وفقاً لتقارير وتقديرات الجيش اللبناني.
الانقسام اللبناني هذا كان وراء مرور أكثر من عشر سنوات قبل أن يعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري ما سمي ب «اتفاق الإطار». ومع ذلك لم يترجم هذا الاتفاق وساطة أمريكية قوية لإنهاء مشكلة ترسيم الحدود البحرية لتبقى ثروة لبنان داخل «الحوض البحري» دون الاستفادة منها.
كما يدفع لبنان ثمن الانقسام كذلك يدفع ثمن الفساد الكامن في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والألاعيب السياسية.
تكاد تمر ثلاث سنوات على الانهيار الاقتصادي الأكبر في العالم، وفقاً لتقارير صندوق النقد الدولي، وليس من يبادر الى محاولة انتشال لبنان من أزمته المخيفة. ليس من بلد سرقت أموال المودعين فيه وهي بالمليارات من الدولارات كما هو في لبنان. وليس من أية خطوة اتخذت بعد على هذا الصعيد. ليس من بلد في العالم سوى فنزويلا وسوريا سعر صفيحة البنزين أعلى من الحد الأدنى للأجور.
يتجذر الانهيار أكثر فأكثر. والأخطر أن الدولة في وضع شبه متحلل. انحلال الدولة بات واضحاً جداً. الموظفون لا يستطيعون الذهاب إلى أماكن عملهم. لم يعد لديهم القدرة المالية بسبب الغلاء. بالكاد يداوم الموظفون بعض الساعات القليلة مرة أو مرتين في الأسبوع. أغلبية اللبنانيين لم تعد تستطيع الذهاب إلى قراها في الأرياف فتحولت الأراضي هناك إلى بؤر جفاف وخراب. وما كان ضرورياً من تنمية القرى والأرياف والمناطق النائية أصبح مجرد خيال وسراب.
ضرب الانهيار كل شيء. والرواتب تذهب كلها إلى فاتورة الكهرباء من المولدات الخاصة في الأحياء، حيث إن التغذية الكهربائية من معامل الدولة شبه متوقفة وبالكاد تأتي ساعة أو ساعتين في اليوم. هذا منتهى الخيال العلمي في بلد وصف مرة بأنه بلد النور والحرية. فإذا به اليوم بلد العتمة والفساد والسرقة.
وما هو الأفظع من ذلك أن الأفق السياسي مسدود. فالانتخابات اللبنانية التي أريد لها أن تكون بداية طريق الخلاص من الانسداد السياسي فالاقتصادي لم تنعكس سوى خريطة انقسام أعمق مما كان. الأكثرية السابقة لم تعد كذلك. فيما النواب «الجدد» لا يشكلون أكثرية جديدة ولا يحملون من الجديد سوى اسمه، فيما المؤشرات حتى الآن لا تبشر بأي تقدم.
وعلى هذا الأساس إذا كانت انتخابات رئاسة مجلس النواب وأعضاء هيئة المجلس قد مرت بمماحكات كثيرة فيما هي ليست بهذه الأهمية التي أعطيت لها، فإن التحدي الأكبر سيكون كيفية تشكيل الحكومة الجديدة بطريقة لا تكرر نسخة الحكومة المنتهية مدتها، ولا تبقي البلاد في فراغ قاتل نتيجة الانقسام الأهلي. هذا من دون أن ننسى الاستحقاق الأبرز المتمثل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الخريف المقبل بحيث إن مدة الحكومة الجديدة، في حال تشكلها، بالكاد ستكون شهرين أو ثلاثة. مع اعتقاد الكثير أن التوازنات الحالية قد تحول دون تشكيلها ليذهب البلد لاحقاً مباشرة الى انتخابات رئاسة الجمهورية.
يدخل لبنان في متاهة متشعبة بحيث لا يخرج من نافذة حتى يدخل في أخرى في حلقة لولبية. وما يساعد على تعقيد المشهد تفاقم الصراعات الإقليمية والدولية التي تنعكس أول ما تنعكس على لبنان.