بثت فضائيَّة «الحرة» برنامجاً عن ابن بحر الجاحظ(ت: 255هج)، قدمه إبراهيم عيسى. كان خص الجاحظ في حلقة مِن «المختلف عليه»، وفي رمضان، لافت للنَّظر، طالما تعرض الجاحظ، للشَّيطنة والتَّكفير، في كتب الأقدمين ومنابر الواعظين. يدرك مَن تورط في شيطنته جهبذته في الكتابة والجدل، لكن الإسراع بالحط منه شأن العاجزين عن مجاراته، ليتهم علموا أنَّ الأدب لا يُصنف بالصّدق والكذب أو الإيمان والكفر، إنما يُصنف بعمق الفكرة وسبك العبارة.
كان الجاحظ حبراً في المعرفة، قدمته البَصْرة، فقيل: «لم يُرَ مثله قط، بلا تقية ولا تحاش ولا اشمئزاز ولا استيحاش، عِلماً بالنَّحو، وغزارة في الكلام، وبصراً في المقالات واستخراجاً للعويص، وإيضاحاً للمشكل»(الحَمويّ، معجم الأدباء).
جاءت الشَّيطنة عبر حكايات، منها أنَّ بصريَّةً سألت صائغاً ينقش لها فصاً على صورة الشَّيطان، فلما اعتذر لعدم رؤيته الشَّيطان، أتت له بالجاحظ(ابن نباتة، سرح العيون)! وقال عبد القاهر البغداديّ(ت: 427هج) عن كتبه: «ومعاني هذه الكتب لائقةٌ به، وبصفته وبأسرته»(الفَرقُ بين الفرقِ)، ثم ينشد ويدعي هذا رأي أهل السُّنَّة: «لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً/ ما كان إلا دون قبح الجاحظ».
أما ابن قتيبة(ت:276هج) فوصفه: «مِن أكذب الأمة وأوضعهم للحديث، وأنصرهم للباطل(...) ويحتج لفضل السُّودان على البيضان، وتجده يقصد في كتبه للمضاحك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث»(تأويل الحديث). مع أنَّ ابن قتيبة طرق هذه المواضيع ولم يسحر القارئ، مثلما سحره الجاحظ في أسلوبه.
يشيد المؤرّخ المسعودي(ت: 346هج) بلوذعية الجاحظ، مع ذمه لاختلاف العقائد: «كُتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصيف، وكساها من كلامه أجزل لفظاً، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السَّامع، خرج مِن جدّ إلى هزل، ومن حكمةٍ بليغةٍ إلى نادرةٍ ظريفةٍ»(مروج الذَّهب).
تظهر للجاحظ في الاجتماع آراء مهمة لعصره وعصرنا، كإشارته إلى سلطتين دينية تخصُّ الفقهاء، وأخرى تخصُّ السِّياسة: «وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدِّين، والحكم في الصّناعات، وإلى كلِّ ما أقام لهم المعاش»(كتاب الحيوان).
إلا أنَّ الأعجبَ مَن اعتبره عميلاً أدخل الإلحاد: «والجاحظ والآخرون، الذين إنما كانوا في الحقيقة عملاء الفلسفة للدولة البيزنطية»(منبر الصَّدر/خُطب الجمعة)! قيل هذا، مع أنَّ المسائل الفقهيّة في الحوزات الدِّينية تُستنبط وفق المنطق الأرسطي! كانت الخِطبَة مكرسة ضد حركة التّرجمة.
إنَّ الذين شيطنوا الجاحظ، طبقوا كافة نصيحة ابن خلدون(ت: 808ه): «وسمعنا مِن شيوخنا في مجالس التّعليم، أنّ أصولَ هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين... وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها»، وأحد الأُصول الجاحظ(المقدمة). ولأنَّ الموهبة غلبت الشيطّنة، لم تخل مكتبات الخواص والعوام، ولا مَن شيطنه، مِن كتبه.
كتب التَّوحيديّ(ت: 414هج) في «تقريظ الجَاحظ»، قيل لأبي هفان(ت: 257هج): «لِمَ لا تهجو الجاحظ، وقد ندّد بك، وأخذ بمخنّقك فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالةً في أرنبةِ أنفي لما أمست إلا بالصِّين شهرةً، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنّ منها بيتٌ في ألف سنة»(معجم الأدباء). احسبوا لأبي هفان صدقه.
أقول: إذا كان الجاحظ والعشرات غيره مِن الأدباء والفلاسفة، شياطين وعملاء وملاحدة، ألم يكن ذلك بمثابة حُكم الرَّدة على مَن يقرأ تلك الكتب، ويُفاخر بأصحابها؟! ماذا أبقيتم للحياة وقد ملأتم رؤوس النَّاس أعاجيبَ؟!