أتاحت لي الجمعية السعودية للتوحد فرصة حضور ندوة في بريطانيا، تم خلالها زيارة عدد من مدارس ومراكز تعليم وتدريب مصابي طيف التوحد، وحضور معرض عن طيف التوحد، وأكثر المشاركين فيه من أمهات وآباء التوحديين وأولادهم وبعض الشركات المهتمة في التوحد. حضر الندوة بعض المهتمين بطيف التوحد من المملكة والكويت وقطر، وأكثرهم من السيدات اللائي لديهن مراكز للطيف التوحدي أو لديهن أطفال توحديّون.

بريطانيا من الدول المتقدمة في تقديم الرعاية لذوي الإعاقة ومنهم التوحديّون، تتكفل السلطات المحلية بتعليمهم وتدريبهم وتأهيلهم، والحكومة ملزمة وبحكم القانون أن تضمن حقوق ذوي الإعاقة، وتقديم الرعاية والتعليم والتدريب والتأهيل، والوصول الشامل لهم داخل بيوتهم وخارحها. أكثر معلمي المدارس التي زرناها من العنصر النسائي، وبنسبة تتعدى معلمة لكل طالب في بعض حالات التوحد، وهو ما جعل التكلفة أعلى بكثير مما هو في المملكة، فالطالب يكلف الحكومة المحلية حوالي 70 ألف جنيه إسترليني في العام، وحوالي 250 ألف جنيه حين تتطلب حالته المبيت.

المعلمات تم اختيارهن بعناية، فالمؤهل العلمي يأتي ثانياً، أما الأساس فهو الحب والشغف أساس كل إبداع وتميز، واعتبار العمل رسالة سامية تحتاج للكثير من الصبر والمتابعة. التدريب على رأس العمل للمعلمات يتم بصفة مستمرة.

المدارس بسيطة في مبانيها وبعضها مدارس قديمة تم ترميمها، وبعضها بني داخل مزارع توفر بيئة صحية للأطفال، فالأهم هو ما تحويه من حدائق وفصول واسعة للألعاب وما بها من أنشطة مختلفة تمكن الطالب من التدريب على مهارات التواصل ومتطلبات الحياة، وفي كل مدرسة غرف للراحة مزودة بالأنوار المناسبة لمن يحتاجها من الطلبة. إحدى المدارس التي زرناها كانت مدرسة ابتدائية بنيت في عام 1912، وتم ترميمها قبل عدة سنوات وأصبحت مدرسة للتوحديين فقط، أما المدرسة الثانية فهي مدرسة ثانوية للبنين والبنات، يتم فيها دمج الأطفال التوحديين مع طلبة التعليم العام. وفي هذه المدرسة قسم خاص مهيأ لتدريب وراحة الأطفال التوحديين تقوم عليه معلمة التربية الخاصة.

اليوم الأخير تم تخصيصه لزيارة معرض خاص بطيف التوحد، وأقيم في مبنى تابع للبلدية في وسط مدينة مانشستر، وبمساحة لا تتعدى 10000 متر مربع، وأجمل ما فيه البساطة وكثرة المحاضرات التوعوية عن التوحد والتعامل مع التوحديين، وتقام المحاضرات بين ردهات المعرض، ويستمع الحضور للمحاضرات من خلال سماعات لضمان الهدوء داخل المعرض.

لهذه الندوة وهذا المعرض فوائد عديدة يمكن إيجاز أهمها في ما يأتي:

أولاً: أهم من المباني والاشتراطات الكثيرة المطلوبة من ملاك المراكز من قبل وزارة الموارد البشرية، نجد أنهم يركزون بدلاً من ذلك على العنصر البشري المدرب والمؤهل والمحب لعمله، فهو الأساس وسرّ النجاح في مدارسهم. مع توفر السلامة للأطفال، وشرط المراقبة اللصيقة للطفل حسب نوع الإعاقة وشدتها. العنصر البشري وجودة التدريب هو ما يركز عليه في تلك المراكز. وأرى أن تراجع الوزارة شروط إقامة المراكز وتبسيطها، مع التركيز على جودة التدريب ومضاعفة المبالغ التي تدفع لشراء الخدمة لزيادة عدد المعلمات في كل مركز وحسب ما تتطلبه كل الإعاقة.

ثانياً: نحتاج جهوداً كبيرة للتوعية بطيف التوحد سواء على مستوى الأسر التي لديها أطفال توحديون أو المدارس التي يتم فيها الدمج، يجب أن تشمل التوعية جميع الطلبة والمعلمين حتى يتأقلموا مع الطفل التوحدي وليس العكس. فالتوحدي لا يستطيع أن يغير من سلوكه إلا بعد تدريب عميق ومستمر ومن مختص، أما العنف ورفع الصوت فلا يزيده إلا نفوراً وكرهاً في المدرسة، كما أن التواصل المستمر بين الأسرة والمدرسة من أهم أسباب نجاح التدريب والتأهيل.

ثالثاً: المعارض المتنقلة والبسيطة التكلفة مفيدة جداً للتوعية بالطيف التوحدي، خصوصاً حين تركز على المحاضرات كما هو في المعرض المذكور بعاليه، واستقطاب المشاركين من داخل المملكة ومن الأردن والدول الأوربية. مقابلة أطفال التوحد المبدعين وأمهاتهم يرفع الروح المعنوية للأسر التي لديها أطفال توحد، ويعطيهم الأمل في مستقبل أفضل لأطفالهم، ومن المفيد وجود عيادات استشارية مجانية لمناقشة كيفية التعامل مع التحديات السلوكية والنفسية والتربوية للتوحديين.

رابعاً: التشخيص الصحيح نصف العلاج، وقد كان التوحد قبل أربعين سنة غير معروف، حتى لدى الأطباء في المملكة، اليوم نحن بحاجة إلى تثقيف جميع طلبة الطب، والطبيب العام وطبيب الأسرة، وأن يكون هذا الطيف حاضراً في ذهن كل طبيب عند الكشف على الأطفال، خصوصاً من لديه فرط الحركة، أو الانطواء أو الحساسية المفرطة من الأصوات العالية، أو الأنوار المبهرة، أو صعوبة التعلم.

في المملكة حوالي 250 ألف مصاب بطيف التوحد، وولي العهد الأمير محمد أولى اهتماماً خاصاً بذوي الإعاقة، وأصدر توجيهاته بضرورة الإسراع في إقامة المراكز والمدارس، وتقديم الرعاية الكاملة لهم. بقي أن نستثمر هذه التوجيهات الكريمة، ونحولها إلى مشروع عمل مستمر، وجهود لا تتوقف حتى تصبح المملكة في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال.