القراءة التاريخية المتأنية المنصفة في الحضارة العالمية تكشف أن المنجزات الحضارية العالمية لا يمكن إرجاعها لبلد بعينه، أو أمة من الأمم، وإنما هي نتيجة جهود مشتركة أسهم في بذلها أشخاص متفرقون على هذه البسيطة، ولم تكن وليدة عصر تاريخي وحيد برزت فيه أمة من الأمم، وكانت لها الريادة في ذلك الزمن، وانتهى الأمر عندما وصلت إليه، وإنما الحضارة متوالية تنمو بالجهود والأبحاث عبر الزمن.
البناء الحضاري العالمي له مكونان رئيسان: أحدهما، المنتجات المادية التي يحتاج إليها الإنسان أينما كان كلوازم ضرورية لبقائه على قيد الحياة، وإن وجد اختلاف بين الناس حسب مجتمعاتهم، وفروضها الثقافية، وما تقتضيه العادات، والتقاليد، كما في المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، فسكان المدن غير سكان الصحاري، والغابات، كما أن المنتجات المحلية بغض النظر عن بساطتها وتقدمها تنعكس على حياة الناس، إضافة إلى مستوى معيشة ودخل أبناء المجتمع.
المكون الثاني من مكونات البناء الحضاري، المكون الروحي، المتمثل في عقيدة الناس، وما تجسده من قيم، ومبادئ تتجلى فيما يتسم به الأفراد من خصائص وسمات مشتركة اكتسبوها من خلال أوعية التنشئة والتربية، سواء الرسمية، كما في المدارس، والإعلام الموجه، أو غير الرسمية المتمثلة في الأسرة وما يتوافر فيها من إمكانات، وأنشطة تربي الوجدان، وتنظم المشاعر والعواطف، وتغرس القيم، ليسلك الفرد الطريق بصورة تتلاءم وتتسق مع ثوابت المجتمع.
عبر التاريخ سادت حضارات وانتشرت حسب إمكاناتها في التوسع، وبما يتوافر لها من وسائل مواصلات في عصرها، ناقلة معها منتجاتها المادية، والثقافية، والقيمية، لتؤثر في المجتمع الذي تصل إليه وتستوطنه. ومن أبرز ما سجله التاريخ الحضارتان: الصينية القديمة، والهندية، حيث كانت منتجات الأقمشة، والتوابل، والأواني، والحلي، والعطور تنتشر بجهود التجار، كما تجدر الإشارة إلى الحضارة الإغريقية، والفرعونية، والآشورية، وحضارات عاد، وثمود، ومدين. في نقاش مع أحد طلاب الجامعة الوافدين من طاجيكستان ذكر لي أن بلاده فيها خليط من أعراق شتى من العرب، والهنود، والصينيين، والأتراك، وغيرهم، حيث كانت بلادهم ملتقى التجار.
الحضارة الإسلامية بتمددها حملت معها كثيرا من القيم، والعادات والتقاليد، والأشعار، وبنت حضارات في الأوطان التي وصلت إليها في الشرق في بلاد السند، وما يعرف الآن بآسيا الوسطى، وفي الغرب، كما في إفريقيا، والأندلس، وشمالا في أوروبا، ولعل من المناسب الإشارة إلى الطراز العمراني الذي لا يزال قائما، وأنظمة الري فائقة الإتقان، دون الميكنة، وإنما بأساليب هندسية فائقة الدقة التي لا تزال شاهدة على علو كعب الحضارة الإسلامية.
من شواهد ما تركته الحضارة الإسلامية في أوروبا المعرفة المتقدمة في كل المجالات من طب، وهندسة، وفلك، وفلسفة، ورياضيات، وفيزياء، وتشهد بأثر الحضارة الإسلامية في أوروبا الكتب المترجمة، أو التي انتحلها بعض الأوروبيين، وسموها بأسمائهم، كما أثبتت ذلك البحوث الاستقصائية. وأشار أحد العلماء الفرنسيين، بقوله: لو تم الاحتفاظ بكتب الحضارة الإسلامية في الأندلس، لكنا الآن نتجول بين المجرات، كما أن نظام المحلفين العدلي المعمول به في أوروبا وأمريكا نظام سبق به النظام العدلي المعمول به في الإمارة الإسلامية في صقلية وأخذه الغرب من هناك.
في العصر الحاضر تتربع أمريكا على عرش الحضارة، خاصة ما يتعلق بالجانب المادي، من حيث الاقتصاد، وصناعة السلاح، والتقنية المتقدمة، وحسبما يراه بعض المتابعين أن هذا العلو المادي لا يجاريه تقدم في مجال القيم، والمبادئ الإنسانية، فالتاريخ الأمريكي مليء بالحروب، والاعتداء على الشعوب، وسلب خيراتها. إن وعينا بتاريخ الأمم الأخرى يجعلنا ندرك حقيقة ما تدعيه، ويمكننا من إبراز تاريخ أمتنا الذي يحاول الآخرون تهميشه، والتقليل من شأنه في بناء الحضارة العالمية.