أعلنت الولايات المتحدة منذ أعوام عدة، وبالتحديد منذ مجيء الرئيس باراك أوباما، أنها ستنكفئ عن العديد من مسارح نفوذها في العالم، من أجل أن تعيد تصويب سياستها الخارجية في اتجاه آسيا، ولا سيما جنوب شرق آسيا، حيث ترى واشنطن، ليس على مستوى الإدارات المتعاقبة فحسب، بل على مستوى مراكز الدراسات والمعاهد الجامعية الكبرى المتخصصة في العلاقات الدولية، أن الولايات المتحدة ستكون مدعوّة في القرن الحادي والعشرين للتوجه شرقاً، أي لتخصيص القسم الأهم من مواردها في السياسة الخارجية، والدفاعية لمواجهة ولادة قوة عظمى جديدة، هي الصين التي باتت منذ الآن القوة الاقتصادية الثانية عالمياً، الأولى تجارياً، ومتوقع أن يصير اقتصادها الأول في العالم بحلول العقد الثالث من القرن الحالي. جميع الإدارات منذ الرئيس باراك أوباما، وضعت المنافسة الاستراتيجية مع الصين كأولوية مطلقة على ما عداها من منافسات، و/ أو مواجهات في العالم. على خطى أوباما سار كل من الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن. لكن ثمة ما طرأ على النظرية التي سبقت تولي باراك أوباما مقاليد الرئاسة في واشنطن، أعاد في كل مرة تذكير الإدارات الأميركية المتعاقبة، أن الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الوحيدة في العالم التي يمكن وصفها بالعظمى، لا يمكنها تجاهل ما يدور في أقاليم أخرى غير شرقي آسيا. وقد يكون القاسم المشترك الذي تقاطعت عنده السياسات الخارجية الأميركية، الانكفاء عن المسرح الأوروبي، وبالتوازي المسرح الشرق أوسطي.

لقد كان الانكفاء عن المسرح الشرق أوسطي مقدمة لخطوات خطيرة قامت بها الإدارات الأميركية، ولا سيما إدارة الرئيس أوباما، الذي نصب أمامه هدف التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران كحجر أساس للخيارات الأميركية. وقد أدى ما سُمّي لاحقاً بـ"الخيار الإيراني" في عهد أوباما، إلى فتح أبواب المنطقة بوجه السياسة التوسعية العدوانية الإيرانية، بدءاً من العراق، وصولاً إلى سوريا ولبنان ثم اليمن. في العراق اتسم عهد أوباما بنمو تنظيم "داعش"، ثم بالحرب التي خاضها التنظيم مستولياً على أكثر من ثلث الأراضي العراقية، بعدما أمر رئيس الحكومة المقرب من إيران نوري المالكي القوات المسلحة العراقية بالانسحاب من مساحات واسعة من الأراضي العراقية، فضلاً عن عدد من المدن الرئيسية في الوسط والشمال. هذه الأزمة كانت المنعطف الأهم الذي فتح الباب أمام تدخّل إيران عبر "الحرس الثوري" و"فيلق القدس " على الأرض العراقية، وقيام تنظيمات مسلحة أكثر من الجيش العراقي، تحت عنوان "الحشد الشعبي" صارت مع الوقت جزءاً من القوات المسلحة، ومموّلة من الخزينة العراقية، لكن إمرتها ظلت بيد "فيلق القدس". هكذا سقطت الدولة العراقية بيد إيران تحت أعين الأميركيين. في سوريا سقط "الخط الأحمر" الذي وضعه أوباما بوجه استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، وقويت شوكة الإيرانيين في سوريا، وتورط "فيلق القدس" بجميع مركّباته من الميليشيات المذهبية كـ"حزب الله"، وبقية الميليشيات التي استقدمت من كل أصقاع المنطقة وصولاً إلى أفغانستان. في المرحلة نفسها شكلت السياسة التواطئية الأميركية مع إيران مناسبات للتوسع نحو لبنان، حيث تمكن الإيرانيون من فرض رئيس للجمهورية عام 2016، ثم قطاع غزة، ثم نحو اليمن من خلال الانقلاب الحوثي الشهير الذي أدخل البلاد في حرب أهلية، واضطر دول المنطقة إلى التدخل لحماية كيانات مجلس التعاون الخليجي. هذه السياسة الأوبامية منحت إيران الأولوية، لقاء التوقيع على الاتفاق النووي، وإعلاء "الخيار الإيراني" في أوساط السلطة العميقة في واشنطن.

هذا التغيير في التوجه الأميركي، اتخذ شكله من خلال خيار الانكفاء عن المنطقة، وسط خلاف كبير مع دول المنطقة الرئيسية، وقد أحدث الانكفاء المعلن لمصلحة الإيرانيين هزة في المنطقة اضطرت قيادتها إلى التفكير بطريقة مختلفة عما سبق. في تلك المرحلة، ثم مع تقدم الزمن بدأ التفكير في الأوساط الحاكمة في الخليج ومصر بعد "ثورة 30 يونيو" يتغير، على قاعدة أنه حان الوقت لكي تتحمل دول المنطقة مسوؤلية الإقليم برمّته بمعزل عما يحصل في واشنطن. وفي عهد رئاسة الرئيس دونالد ترامب الذي حاول كسر مسار السياسة الأوبامية، والعودة إلى المنطقة أكثر، لم تتراجع قيادات أساسية في المنطقة، أكان في السعودية، أو الإمارات، أو مصر عن التفكير بإعادة نسج علاقاتها البينية على أساس أن دول المنطقة هي التي يجب أن تتحمل مسوؤلية أمن الإقليم، ومستقبله على مختلف الصعد، وذلك بمعزل عن السياسات الأميركية التي تتأرجح مرة كل أربع سنوات بين إدارة وإدارة. هذه العقلية الجديدة هي التي تحكمت بجميع القرارات الاقتصادية، والاجتماعية، التنموية والسياسية التي اتخذت في الأعوام الماضية. ومع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض قبل عام ونصف، عادت واشنطن إلى سياسات الرئيس أوباما، لا سيما بالنسبة إلى مقاربة العلاقات مع إيران، وذلك على حساب الحلفاء التاريخيين والشركاء الأساسيين في المنطقة. هذا الأمر دفع القوى الإقليمية الرئيسية العربية وغير العربية إلى متابعة مسيرة الاستفادة من الانكفاء الأميركي لإعادة ترتيب الأوراق الإقليمية بشكل مستقل. هكذا ولدت "الاتفاقات الإبراهيمية" (بمشاركة أميركية)، وهكذا تطورت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ومعها مصر والأردن بالصين وروسيا، وهكذا اتخذت قرارات تاريخية، لا سيما في المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة بالمضي قدماً في مسيرة الحداثة المنظمة التي صارت ظاهرة عالمية واضحة المعالم. وكذا وقفت الدول العربية المركزية بوجه النسخة الجديدة من السياسة الأوبامية في الشرق الأوسط التي طغت في الإدارة الأميركية حتى شهر شباط (فبراير) الماضي، عندما اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تغير كل شيء. كانت الحرب جرس الإنذار الذي قلب رأساً على عقب السياسة الأميركية الخارجية، لا سيما في أوروبا والشرق الأوسط. في الأثناء بدا للكثيرين في المنطقة أن الانكفاء الأميركي، والبرودة التي اتسمت بها العلاقات بين واشنطن والعواصم العربية الحليفة، دفعت الأخيرة إلى إعادة رسم سياساتها على أسس مغايرة لما سبق. والأهم أنها أعتقت العرب من العقد التاريخية التي تحمكت بالقرار العربي لعقود مضت. وبهذا فُتح الباب وبمباركة أميركية أمام قيام تحالف إقليمي كبير بدأ شيئاً في إعادة التوازن الاستراتيجي في الإقليم مع القوة الوحيدة التي بقيت عصية على القبول بعلاقات سوية مع جيرانها، عنينا إيران.

في مكان ما، أفادت السياسات الأميركية منذ الرئيس أوباما في دفع دول المنطقة إلى البحث عن مسارات جديدة داخلية وخارجية لحماية الكيانات، والمجتمعات، وأمن الدول. من ناحيتها، وعلى الرغم من كونها لا تزال القوة الضامنة لأمن المنطقة، فإن الولايات المتحدة صارت مجبرة أكثر على التفاعل مع القرار الإقليمي، وعلى التأقلم مع المتغيرات في مرحلة الصراع العالمي بين العرب وكل من روسيا والصين.

ما تقدم قد يفسر وجهاً من وجوه العلاقات العربية – الأميركية التي ستظهرها زيارة الرئيس جو بايدن للرياض في الشهر المقبل.